لا شىء يدل على أننا ما زلنا نعيش فى مجتمع ذكورى أكثر من ذلك الجدل حول حجاب المرأة. الدعوة لمظاهرة خلع الحجاب أطلقها رجل، وأغلب من تصدّوا له رجال، وإن كان الكثير من النساء أسهمن برأيهن فى هذا الجدل. فى مجتمع يتسيّده الذكور ويهمش المرأة، يقوم الرجال باستخدام النساء لتحقيق أغراضهم، فيحولون المرأة من إنسان كامل العقل والأهلية إلى أداة يتم استخدامها لتحقيق أجندات خاصة.
فى السبعينات، وبأثر من إخفاق المشروع القومى الثورى فى تحقيق الأهداف التى وعد بها، كفر بعض الرجال بالنظام القائم وعقيدته السياسية، ورأوا أن الخروج من أزمة الهزيمة والتنمية والفساد وعدم الكفاءة يتحقق بإنشاء المجتمع والدولة الإسلامية. تداول الإسلامويون الأوائل عقيدتهم الجديدة فى حلقاتهم التى كانت صغيرة وقليلة فى ذلك الوقت. وعندما قرّر هؤلاء التوجه إلى المجتمع الأوسع لم يصارحوه بما فى دخائلهم من عداء للدولة الوطنية والحرية الفردية وكل أصحاب العقائد من غير المسلمين، بل حدّثوه عن لباس المرأة، فقدّموا الحجاب بديلاً للباس الغربى الذى كان سائداً بين نساء مصر فى ذلك الوقت. كانت هذه هى البدايات الأولى لانتشار الإسلام السياسى، وكلما زاد عدد النساء من مرتديات الحجاب، زادت ثقة الإسلامويين فى أنفسهم، وأصبحوا أكثر فجاجة وصراحة فى التعبير عن أجندتهم السياسية التى لم تعد خفية. انكسرت شوكة الإسلامويين بعد الثلاثين من يونيو، وشعر بعض خصوم الإسلامويين أن الفرصة مواتية للإجهاز على خصومهم، فخرج علينا من يدعو إلى تنظيم مظاهرة لخلع الحجاب، ومرة أخرى كانت إثارة قضية لباس المرأة مدخلاً لطرح الأفكار والعقائد السياسية، وبديلاً عنها فى الوقت نفسه، فبدلاً من أن يطرح هؤلاء أجندتهم السياسية بصراحة ووضوح، استخدموا المرأة أداة وستاراً.
أوجه الشبه بين الفريقين لا تقف عند حد التعامل مع المرأة كأداة وستار، ولكن تشمل أيضاً النزعة الأخلاقية المزعومة التى ادعاها كل منهما. ففيما أعطى الإسلامويون أنفسهم الحق فى إصدار الأحكام على أخلاق النساء من ملبسهن، فقدّموا الحجاب رمزاً للعفة، فيما اعتبروا عدم ارتدائه دليلاً على التهتُّك، خرج علينا خصوم الإسلاميين بأحكام مجهولة الدليل من نوعية أن تسعين بالمائة من العاهرات يأتين من بين المتحجبات، فبدت مقاومة العهر وكأنها ما يشغل الطرفين، وأن كلاً منهما يقدم الوصفة السحرية للقضاء على التحلل الأخلاقى.
الإعلام من جانبه، بلا أى سبب واضح سوى اللهاث وراء الصخب والإثارة، التقط خبر مظاهرة خلع الحجاب، فروّج لها بين قراء لم يكن من الممكن أن يسمعوا بها، وراح يُحصى ردود الفعل المؤيدة والرافضة لها، وكأن لصاحب الدعوة وزناً وتأثيراً، وكأن الآلاف من النساء ينتظرن بشوق الفرصة التى ستتيحها مظاهرته للخروج إلى ميدان التحرير لخلع الحجاب. وعندما يصل الجدل السياسى والإعلامى فى مجتمع إلى هذا الدرك، فاعلم عزيزى القارئ أن الإعلام وبعض المثقفين فى بلادنا ما زالوا بعيدين عن الارتقاء إلى مستوى التحدى الذى يواجه بلدنا.
الهوس بمسألة لباس المرأة ومظهرها هو شأن مشترك بين الإسلاميين وغلاة العلمانيين فى بلادنا، وكليهما أقلية فى كل حال. أما أغلب المصريين فهم أعقل كثيراً من الفريقين، فلا يعطون مسألة المرأة ومظهرها كل هذا الاهتمام، ويتعاملون مع الأمر كله بمنطق عملى ينطلق من الثقافة والقيم التى اعتادوا عليها دون أن يقعوا فى أسرها.
الثقافة المصرية ثقافة محافظة، خاصة فيما يتعلق بقضية المرأة والعلاقة بين الرجال والنساء، وهى أيضاً ثقافة حية دائمة التغيير لا تقيّد نفسها بنصوص دينية أو عقائد سياسية. ثقافتنا الشعبية محافظة إذا قارنتها بثقافة أمم الغرب، وهى تعبّر عن هذا المنحى المحافظ بأشكال وأساليب تتغير باستمرار، لكنها تبقى طوال الوقت على يمين الثقافة الغربية. ولأن الثقافة الغربية مستمرة فى الإيغال فى التحرّر، فإن ثقافتنا الشعبية تتحرّك معها فى الاتجاه نفسه، دون أن تغادر موقعها النسبى على يمين الثقافة الغربية. فثقافتنا الشعبية اليوم أكثر تحرراً مما كانت عليه قبل عقود، وهو اتجاه لا تخطئه العين غير المهووسة بلباس المرأة ومظهرها. فانتشار التعليم بين النساء، وخروج الكثير منهن للعمل خارج البيت، ودخولهن إلى مجالات للعمل لم يرتدنها من قبل، وتمتعهن بحرية أكبر فى السفر للدراسة والعمل واختيار شريك الحياة، والدور الأكبر الذى يقمن به فى اتخاذ القرار داخل الأسرة، كل هذه مظاهر لتحرّر المرأة لم تكن معروفة فى بلادنا قبل سنوات، وهى التغيرات التى حدثت ليس فقط رغم انتشار الحجاب، بل وبسببه أيضاً.
لقد تصور أنصار الحجاب من الإسلامويين أن حجابهم سيفرض القيود على المرأة ويخضعها لوصياتهم، أما الثقافة الشعبية الحية والفعالة والمراوغة فقد وجدت فى الحجاب وسيلة للمواءمة بين النزعة المحافظة المتأصلة فيها، وبين اتجاه الحياة المعاصرة غير القابل للمقاومة نحو التحرُّر، فكان الحجاب هو علامة التحفُّظ الأخلاقى التى خفّفت مقاومة المجتمع المحافظ لزيادة تمكين المرأة وحريتها.
تحرير مظاهر وسلوكيات عديدة من الاختطاف السياسى والأيديولوجى هو من أروع الأشياء التى تحقّقت فى هذا البلد بعد الخامس والعشرين من يناير. ففيما استخدم الحجاب لسنوات طويلة مقياساً لنفوذ وقوة تيارات الإسلام السياسى، كشف الخامس والعشرون من يناير عن زيف هذا الادعاء، فرأينا نساء مصر من المحجبات وبعض المنتقبات يتظاهرن ضد الإخوان، ورأيناهن يرقصن فى الشوارع فرحاً بسقوطهم وخروجهم من الحكم، فتهيأت لنا الفرصة للكف عن إصدار الأحكام على الأشياء بظاهرها وعلى النساء بمظهرهن، وهو ما أراد صاحب دعوة المظاهرة إياها حرماننا منه.