الرئيس يبدأ الإصلاح الدينى بـ"إسلام الدولة غير إسلام الفرد"
«إسلام الدولة غير إسلام الفرد».. بهذه العبارة الموجزة، التى تحمل فى طياتها عشرات الأفكار والرؤى والمفاهيم، اختار «الجنرال المستقيل» أن يسلك الطريق المحفوف بالمخاطر، ويبدأ ثورته الدينية مبكراً قبل الوصول إلى «قصر الحكم». قالها بنبرة حاسمة، ونظرة حازمة، وملامح قائد قرر خوض المعركة، مشيراً بيده اليمنى إلى الإعلاميين اللذين كانا يحاورانه فى أول ظهور إعلامى له بفترة الدعاية لانتخابات رئاسة الجمهورية، مشدداً: «أرجوكم انتبهوا كويس.. أول مرة هتسمعوا الكلام ده».
يضيف «السيسى» فى لقائه مع الإعلاميين إبراهيم عيسى، ولميس الحديدى، على فضائيتى «سى بى سى» و«أون تى فى»: «الدين الحقيقى فى تقديرى ليس ما نمارسه الآن. الخطاب الدينى الآن يحمل جانباً من السياسة، وهذا خاطئ. الدين يجب أن يأخذ مكانه الطبيعى.. لو واحد حب يصلى أهلاً وسهلاً، هيحاسبه ربنا، ولو واحد مابيصليش حاجة تخصه، وأهلا وسهلاً برده»، وبعد صمت لثوانٍ، تابع: «مش هنقطّع الناس بالسكينة فى شكل واحد علشان يدخلوا مارش على الجنة.. ده مفهوم خاطئ تماماً. المجتهدون والأئمة تصدوا للمهمة فى عصرهم وأفتوا، وكان كلامهم متناغماً مع عصرهم، لكن إحنا جمدنا ده من مئات السنين»، مستدركاً: «إحنا قدمنا ربنا بشكل لا يليق بجلالته. وخلينا الإسلام يفقد الإنسان إنسانيته».
وبسؤاله: «هو الحاكم مفروض يبقى داعية؟»، يرد الرئيس المحتمل وقتها: «مش داعية.. لكن منتبه ومسئول. ماينفعش أبقى بقود الناس، وشايف قيادة تانية بتقول أمر مختلف وأقف ساكت. لا يجوز»، ثم يتابع وقد ارتفع مستوى نبرة صوته، واحتدت نظرته قليلاً: «أنا هخلى فيه قيادة واحدة.. مافيش حاجة اسمها قيادتين، ومافيش حاجة اسمها قيادة دينية، لأن المفروض رئيس الدولة مسئول عن كل حاجة فيها حتى دينها.. أنا مسئول عن إصلاح القيم والمبادئ والأخلاق والدين، وحجم الفهم والفكر والثقافة الدينى كبير جداً، ومحتاج يتراجع».
بعد إجراء الانتخابات، وفوزه باكتساح على منافسه الأوحد، لم يترك الرئيس عبدالفتاح السيسى، مناسبة عامة دينية أو سياسية، فى الداخل أو الخارج، إلا وكشف عن جزء جديد من ملامح فكره الدينى الذى يدعو إليه، ويبشر به. يبدأ خطابه فى احتفالية ليلة القدر من شهر رمضان الكريم، قائلاً بعد البسملة: «سأتحدث إليكم كإنسان مسلم مهموم بدينه ومظاهر الإساءة إليه.. نحن نحتاج لفهم حقيقى لكتاب الله بما يتناسب مع العصر، وليس حفظه فقط، فهناك من يقتلنا وهم للأسف من حفظة القرآن الكريم»، مضيفاً: «نقول إن الإسلام هو دين الصدق والإتقان والسماحة، فهل لدينا الصدق والإتقان والتسامح. أدعو رجال الدين والأزهر لتقديم خطاب دينى سمح وسطى يعبر عن الإسلام والمسلمين، لمجابهة الإساءة للدين والتطبيق الفاسد لأصوله».
وفى نهاية الاحتفال نفسه، تلك الليلة التى هى خيرٌ من ألف شهر، توجه بالدعاء إلى الله، على طريقته الخاصة، قائلاً بعد أن استحضر ابتسامة بسيطة: «يا رب أعنا ووفقنا، يمكن مايكونش ليّا خاطر عندك، لكنى أستحلفك بخاطر كل من له خاطر عندك، أن توفقنا وتهدينا وتكرمنا وتنصرنا».[FirstQuote]
بعد أشهر قليلة، وداخل أروقة الأزهر، فى احتفالية المولد النبوى، مع مطلع العام الجديد، أطلق «السيسى» أقوى قذائف ثورته الدينية، عندما قال: «لازم نتوقف كثيراً قدام الحالة اللى إحنا موجودين فيها.. مش معقول الفكر اللى إحنا بنقدسه ده يبقى مصدر ليدفع الأمة إلى خطر الخوف والقلق والقتل والتدمير. أنا بقول الفكر مش الدين. هناك نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين وأصبح الخروج عليها صعب أوى، لدرجة أنها بتعادى الدنيا كلها»، متسائلاً: «يعنى الـ1.6 مليار هيقتلوا الدنيا اللى فيها 7 مليار عشان يعيشوا هما؟!.. مش ممكن».
وأكد دعم الدولة للخطاب الوسطى، موضحاً أنه يقصد بهذا الخطاب «ما يتناسب مع عصره»، مضيفاً بعد أن وجّه حديثه لرجال الأزهر: «والله سأحاججكم يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى»، ثم التفت إلى الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، قائلاً: «محتاجين ثورة دينية. الدنيا كلها منتظرة منكم ومنتظرة كلمتكم، والأمة بتضيع وضياعها بإيدينا إحنا». وأشار فى السياق نفسه إلى الفرق بين التوكل والتواكل، قائلاً: «نعم.. نتوكل على الله، لكن بعمل ورؤية وجهد وأهداف، ولا نتواكل اعتماداً على صدفة»، ودعا إلى التأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم فى الأخلاق والمعاملة الحسنة والقيم من عدل ومساواة وصدق، معتبراً أن وفاة النبى تشير إلى أنه «لن يبقى من بعد موت الإنسان إلا ما قدمت يداه».
واصل «السيسى» إشهار سيف «الثورة الدينية»، لكن فى الخارج هذه المرة، ليكشف أمام منتدى «دافوس» الدولى، فى سويسرا، يناير الماضى، ملامح جديدة لدعوته، قائلاً: «لا يوجد خطاب دينى يجب أن يصطدم مع محيطه، العالم يحتاج من المسلمين أن نراجع الخطاب الدينى المنتشر، وهذا غير مرتبط بالعقيدة، فالعقيدة الإسلامية حق مطلق لا أحد يستطيع الحديث عنه، لكن سماحة الإسلام لم تعد واضحة للعالم كله، فخلال 30 سنة مضت، قدمت العمليات الإرهابية شكلاً قبيحاً للدين، لذا نحتاج أن نتوقف ونقوم بتنقية خطابنا الدينى من الأفكار المغلوطة»، وفى دفاع عن شكل الإسلام الذى يحث عليه، أضاف: «أؤكد أنه لا ينبغى أن يؤخذ الإسلام السمح بقيمه السامية بحفنة من المجرمين القتلة، وعلينا كمسلمين أن نصلح من أنفسنا ونراجع ذاتنا لكى لا نسمح لقلة بتشويه تاريخنا والإساءة لحاضرنا وتهديد مستقبلنا، بناءً على فهم خاطئ وتفسير قاصر، وعلينا كعالم متحضر القضاء على ما يمثله الإرهاب من تهديد، والتحلى بالاحترام والتقدير المتبادل لتنوع معتقداتنا ومقدساتنا».
وفى حواره لصحيفة «وول ستريت» الأمريكية، أطلق «السيسى» قذيفة جديدة يدك بها بيت المتشددين الإسلاميين، بقوله: «يجب أن نفهم جميعاً أن الجنة ليست للمسلمين فقط، فلا يقول الإسلام إن المسلمين فقط سيذهبون إلى الجنة والآخرون إلى الجحيم»، مستدركاً: «نحن لسنا آلهة على الأرض، وليس لدينا هذا الحق فى التصرف باسم الله. الدين الإسلامى الحقيقى يمنح الحرية المطلقة للشعب كله فى أن يعتقد أو لا يعتقد، والإسلام لا يأمر أبداً بقتل الآخرين لأنهم لا يؤمنون به، ولا يمنح المسلمين حق إملاء معتقداتهم للعالم كله، وهو تحت حراسة روحه وجوهره السامى، وليس تحت حراسة أى من البشر، فالبشر يأخذون جوهره وينحرفون به إلى اليمين أو اليسار».
وبعد جولتَى الخارج، عاد «السيسى» يتحدث إلى الداخل عبر إذاعة القرآن الكريم بمناسبة ذكرى تأسيسها الـ51، قائلاً: «نحتاج إلى وقفة مع النفس وثورة من أجل الدين وليس على الدين، لتصحيح المفاهيم المغلوطة وإظهار وتطبيق القيم السمحة والتعاليم الغراء للدين الحنيف، وهناك مسئولية تقع على عاتق المسلمين إزاء الدين ويتعين أن يتحملوها بصدق وأن يؤدوا الأمانة، عبر التصدى بكل الوسائل الممكنة للمحاولات الآثمة التى تستهدف تشويهه واستغلاله لخدمة أهداف مغايرة»، مستدركاً: «الدين الإسلامى الحنيف لن يعز بسفك الدماء ولا بالمفسدين فى الأرض، وهناك ضرورة للثورة على الأفكار الخاطئة المنسوبة للدين». وحول موجة الابتعاد عن الدين، قال: «لست قلقاً من ابتعاد بعض الشباب عن الدين، والأمر ليس أزمة، وربنا لو كان عاوز يخلى الكون كله مسلمين كان عمل كده، وإحنا دورنا هو الوقوف عند الأفكار المغلوطة، ونعرف أن الحق حق، وإن لم يتبعه أحد، والباطل باطل وإن اتبعه الجميع».[SecondQuote]
وخلال لقائه مع بعض القيادات التى انشقت عن تنظيم الإخوان، فبراير الماضى، منهم ثروت الخرباوى وكمال الهلباوى ومختار نوح، شدد «السيسى» على أن مصر فى حاجة إلى ثورة دينية، للتجاوب مع العالم الخارجى بشكل جيد، مضيفاً: «ليس من المعقول أن يكون الإسلام غير قادر على إجراء مصالحة مع العالم، وليس من المعقول أن يكون هذا الدين هو خاتم الأديان السماوية، وأصحابه عاجزون على فهم المتغيرات الدولية»، مشيراً إلى أن «الذين اجتهدوا فى القرون الماضية كانوا يجتهدون لأنفسهم ولأزمانهم، فنحن فى حاجة إلى شخص مثل محمد عبده، ليقود الأمة إلى الأمام بثورة دينية، تقدم فهماً جديداً للدين».
وفى آخر المحطات، وليست الأخيرة، أكد «السيسى»، خلال كلمته الافتتاحية أمام القمة العربية الـ26، بشرم الشيخ، أهمية دور المؤسسات الدينية، ورجال الفكر والثقافة والإعلام والتعليم، فى التصدى للفكر المتطرف، والمعتقدات التى تحضُّ على الكراهية وجمود الفكر، ورفض التنوع وإقصاء الآخر، قائلاً: «من يسير فى طريقه الوعر، سينزلق حتماً إلى هاوية الإرهاب، ما لم يجد سبيلاً ممهداً لصحيح الدين، نحن فى أمس الحاجة إلى تفعيل دور مؤسساتنا الدينية، بما يعزِّزُ الفهمَ السليمَ لمقاصدِ الدينِ الحقيقيةِ من سماحةٍ ورحمةٍ».
وأضاف: «الفهم السليم لمقاصد الدين الحقيقية يتطلب تنقية الخطاب الدينى من شوائب التعصب والتطرف والغلوِّ والتشدُّد، وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، والحث على حماية النسيج العربى بكامِل مكوناته، وإدراك قيمة التراث الحضارى والإنسانى ككل، والذى شكلت الحضارتان العربية والإسلامية رافداً أساسياً له، ووضع استراتيجية عربية شاملة لمواجهة الفكر المتطرف».