لو أنك تابعت واقعة تسمم ما يزيد على 480 مواطناً بالشرقية أمس الأول، فستعرف أن نظرية «تفريق الدم بين القبائل» هى التى تحكم المشهد فى مصر. فكل الأطراف تعمدت منذ الوهلة الأولى لوقوع الواقعة نفى المسئولية عن ذاتها؛ الشركة القابضة للمياه أكدت أن تحليل العينات التى تم الحصول عليها من المحطات التى تغذى المنطقة بالمياه مطابقة للمواصفات، وأصدرت وزارتا الرى والبيئة بيانات مماثلة تبرأت فيها من الواقعة، مسئولون حكوميون آخرون «لصقوا» تهمة تسميم أهالى الشرقية بـ«مروجى الإشاعات» الذين أخذوا يصرخون عبر الميكروفونات فى المساجد محذرين الأهالى من شرب المياه، فأثاروا الذعر بينهم، رغم أن المياه كانت «زى الفل». رئيس قطاع مياه الشرب والصرف الصحى بشمال الشرقية كان له رأى آخر، إذ أشار بأصابع الاتهام إلى «الجراكن»، وقال إن المقابلة مع الأهالى أثبتت أنهم تناولوا المياه من «جراكن» توفرها محطات فلترة غير خاضعة للرقابة، وبالتالى تكون الشركة غير مسئولة عن تسميم الأهالى.
رئيس قطاع المياه بشمال الشرقية فك «الطلسم»، وأثبت التهمة على جراكن المياه التى يحصل عليها الأهالى من محطات غير خاضعة للرقابة، ولست أدرى نكلم مين من أهل مصر لما نحب نعرف المسئول عن الرقابة على مثل هذه المحطات؟. ومن الذى سمح لها بالوجود؟. ربما كان «الجركن»!، لقد تحيرت فى أمر أهالى الشرقية الذين سلموا أنفسهم بهذه البساطة إلى «الجراكن»، وتساءلت: هل هؤلاء المواطنون أعداء أنفسهم إلى هذا الحد، ليتركوا مياه الدولة النقية الطاهرة العفيفة، ويلجأوا إلى جراكن المحطات غير الخاضعة للرقابة؟ أم أن الذى دفعهم إلى ذلك هو نقص أو عدم صلاحية المياه التى تصل إليهم؟. إنها مشكلة كبرى، وسوف تكبر أكثر إذا كان الأهالى يدفعون مقابلاً للحصول على «جراكن» المياه، لأننا سنكون فى هذه الحالة بصدد «موت مدفوع»، وليس موتاً «مجانياً» كما تعودنا. فالموت كان حتى وقت قريب السلعة المجانية الوحيدة فى مصر!.
دع هذه الأمور جانباً، وتعال نقول إن الحكومة تحركت وفتشت ونقبت فى المحطات التى باعت السم للأهالى فى «جراكن»، هل من الوارد أن يعترف أصحابها بالجريمة؟. مؤكد أن المسئولين بهذه المحطات سينفون التهمة عن أنفسهم، كجزء من ثقافة تفريق دم الجريمة بين القبائل. لن يكون أمامنا فى النهاية سوى «الجركن»، فكل الأطراف ستعرف كيف تفلت من التهمة، وسيشربها «الجركن» فى النهاية، وبالتالى فهو العنصر الوحيد فى هذه الواقعة الذى يمكن أن نحاكمه، لأنه لن يستطيع أن يهرب، وليس بإمكانه أن ينكر أو يراوغ، وليس فى مقدوره أن ينفى عن نفسه حقيقة أنه حمل الماء الذى سمم «الغلابة» فى الشرقية، والجركن الذى سيتم القبض عليه لا بد أن نعصره قطرة قطرة، حتى يدلنا على بقية الجراكن التى شاركت فى الجريمة، ولكى تكون المحاكمة عادلة لا بد أن نسلك مسلك الفرنجة مع سليمان الحلبى عندما قتل «كليبر» القائد الثانى للحملة الفرنسية على مصر، فنعين له محامياً (جركن نضيف)، ومن حقنا بعد ذلك أن نحكم عليه بالإعدام على «الخازوق».. وسلم لى ع المسئولية!.