متى يتغير النظام العالمي ؟ .يتغير النظام العالمي عندما تفقد القوة أو القوى العظمى المهيمنة قدرتها على مجريات الأمور العالمية أو إلزام الدول بطاعتها . إذا فقدت القوة العظمى سيطرتها على مقاليد الأمور فإن النظام العالمي يتخلخل ويتبع ذلك صعود قوى أخرى منافسة تتطلع إلى فرض وجودها.
هذا ما يحدث الآن، أمريكا تفقد هيمنتها التي كانت على العالم الذي يشهد صعود عمالقة جدد ودولا ترى في نفسها القوة ولا تقبل بوضعها في ترتيب النظام العالمي.
وإذا كانت الصين صاعدة بقوة اقتصاديا، فإن روسيا لم تفقد مكانتها كثانية العالم في القوة العسكرية بل وتتفوق على أمريكا في حجم السلاح النووي من حيث الكميات .بالإضافة إلى ذلك تتجمع قوى أخرى باتفاق أو بدون اتفاق لتشكل كتلا اقتصادية واستراتيجية ضد الهيمنة الأمريكية وعلى سبيل المثال نجد أن دول أمريكا اللاتينية لا تغرد في سرب أمريكا ولا تسير ضمن القطيع الغربي والبرازيل مثالا، وصار لدولة مثل الهند طموحها الكبير على خريطة العالم وصار ترتيب اقتصادها يسبق بريطانيا ويأتي خامس العالم.
منذ فترة اتجهت أمريكا إلى التركيز على منطقة شرق آسيا التي توجد فيها الصين معلنة أنها ستخفف وجودها في الشرق الأوسط، وربما تكون رتبت لوجود خليفة أو خلفاء أو وكلاء لها في المنطقة، وكانت مسألة تايوان تشغلها، ليس من أجل تايوان في ذاتها وإنما لعرقلة الصعود الصيني المتسارع اقتصاديا وتكنولوجيا، وبينما هي في طريقها لتنفيذ خططها نشبت الحرب الروسية الأوكرانية لتعطل مسيرتها إلى الشرق.
اعتقد البعض وقد يكون في اعتقادهم منطق ما أن أمريكا من أشعل نيران حرب أوكرانيا لتستنزف روسيا , لكن يرى الغالبية أن روسيا انطلقت من أوكرانيا لإعادة تموضعها العالمي كقطب أعظم معترف به في النظام العالمي الذي يتشكل.
استمرت حرب أوكرانيا أكثر من عامين وهي فترة طويلة لكنها كانت حربا كاشفة، فقد فرضت روسيا وجهة نظرها على أمريكا وأوروبا وحلف الأطلنطي ولم يجرؤ أي منها على التصدي المباشر لروسيا بل وحرصوا على الابتعاد تماما عن أي تصريحات ساخنة قد تستفز الرئيس بوتين الذي يطلق بين الحين والآخر أحدث أسلحته وكأنه يعلن عدم تردده في خوض الحرب إذا ما كان ذلك حتميا.
وفي النطاق الشرقي خفتت سرعة الأساطيل الأمريكية المتجهة إلى بحر الصين وشق آسيا بعد حرب غزة التي أعادت جزء من القوات الأمريكية للشرق الأوسط !! واستكملت ضربات الحوثيين في جنوب البحر الأحمر اضطرار أمريكا للبقاء في المنطقة ولو إلى حين وتأجيل نقل تركيزها الاستراتيجي على شرق آسيا . فلم يكن من المتوقع أو من المعتاد أن تستمر حرب غزة طوال هذه المدة التي فاقت حروبا نظامية وفدائية عديدة.
ولم يكن هذا صدفة أيضا , فقد صمدت المقاومة الفلسطينية وتعرض الشعب الفلسطيني لأقسى حرب وأقصى تدمير , لكنها في النهاية ستكون نصرا للفلسطينيين وهزيمة للصهيونية المحتلة وللغرب المتغطرس المتجبر على الشعوب النامية , وعلامة على ما آلت إليه أحوال القطب الأعظم الأوحد أمام العالم أخلاقيا وإنسانيا وعسكريا.
رغم الحرب في أوكرانيا , لم تتردد أمريكا في الاتجاه ناحية الشرق حيث الصين وتايوان , إلا أن حرب غزة اضطرتها للعودة مرة أخرى لمساندة محبوبتها الأولى إسرائيل وبالتالي صارت منجذبة من أوكرانيا ومن إسرائيل لتؤجل خططها في شرق آسيا .هذا يعني أن أمريكا فقدت الكثير من قواها التي استنزفتها في العديد من الحروب الإقليمية بغرض تكريس هيمنتها على الجغرافيات المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا أيضا في التسعينات وهذا الفقد وطبيعة التحولات الاستراتيجية والجيواستراتيجية ترتب عليه أن تبرز قوى أخرى تتطلع إلى احتلال مكانتها المناسبة على قمة العالم.
ربما تكون إرهاصات الحرب الثالثة العظمى بدأت منذ سنوات من خلال الحروب بالوكالة أو الحروب الهجين , لكن تنصيب قوى عظمى جديدة وتغيير النظام العالمي أو تعديله سيكون حتما بأسلحة ساخنة.
إن الحروب لا تشتعل بأعواد الكبريت , والأزمات لا تحتدم بالنوايا , إنما يتغير تاريخ العالم ويتشكل النظام العالمي بحتميات وإرادات جبارة تتغير من خلالها الجغرافيا ويتحلحل التاريخ كاتبا فصولا جديدة تناسب كل عصر .