إن كثيرا من الناس يُخيَّل إليهم أن المرأة المسلمة في عهد النبوة كانت قعيدة البيت، وأن النشاط والحركة والتعليم والمجالس العامة كانت خاصة للرجال وحدهم، والذي يعتقد هذا التصور المغلوط، فريقان من الناس: إما من الملتزمين بالدين ظاهريا، ومن ثَم يصد أهله عن أي احتكاك بالمجتمع، وهو منع يؤدي عكس مقصوده، تؤدي عمليا إلى عكس مقصوده، وإما من الرافضين لمبادىء الدين، فيتهم الإسلام بالرجعية والتخلف وظلم المرأة.
والواقع أن الإسلام يتسامى عن الفريقين، ويبيح الاحتكاك بين الجنسين، دون النظر إلى أن هذا الاحتكاك اسمه اختلاط أو تعارف أو احتكاك أو صداقة أو زمالة أو إخوة أو تقارب أو في الحقيقة أو الواقع الفضائي، لا علاقة هنا بالاسم، وإنما المهم ضوابط الشرع أو العفاف أو الأخلاق، والخدمات المشروعة، والأعمال النافعة، وفي عهد النبوة كانت المرأة بهذه الضوابط تظهر مع الرجال في المجتمعات والمحافل والمناسبات.
في صحيح مسلم أن رجلا فارسيا دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطعام، فاستجاب رسول الله لدعوته، فقال له الرجل: وهذه تأتي معك، يقصد السيدة عائشة، فقال رسول الله: لا، فعاد الرجل يطالبه بحضور عائشة معه، فقال رسول الله لا، فعاد الرجل يطالبه للمرة الثالثة، فقال رسول الله: نعم، وبالفعل ذهب إليه ومعه عائشة.
علق الدكتور البوطي -رحمه الله- على هذه القصة: إن هذا الحديث لا يدل مما نحن فيه على أكثر من شىء واحد، وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اصطحب عائشة معه إلى بيت الرجل الفارسي، وهو كما دلت أحاديث كثيرة أخرى على اصطحاب الصحابة نساءهم إلى المساجد، ودلت أحاديث أخرى على زيارة كثير من الصحابة لأمهات المؤمنين عامة ولعائشة خاصة.
هنا تُطرح مسألة تتعلق بالتعامل بين الجنسين، لا سيما في سن الشباب، أليس الأفضل قيام الفقيه بمنع هذا التعامل سدا للذريعة؟ الفقيه هنا يجد نفسه أمام خيارين
الأول: الأخذ بمبدأ سد الذريعة، ويلزم باب التحريم، حتى يغلق على هؤلاء الشباب الأبرياء باب الوقوع في الخطأ بمنع مقدماته، وساعتها سوف يغلب على ظنهم أن دينهم هذا صعب أن يمارس في هذه السن، وأن كثيرا مما يمارسونه في حياتهم بشكل طبيعي وفطري حرام، لكونه ذريعة إليه، كالمحادثات البريئة بينهم، والزمالة التي تفرضها طبيعة الدراسة، واستعارة المحاضرات وتبادل المعلومات والنقاشات والرحلات.. ولكن ما مردود سلاح التحريم هذا؟
تجيب العالمة الدكتورة زينب أبو الفضل، أستاذة الشريعة بآداب طنط: هذا تسويدٌ للحياة في أعين هذه البراعم الغضة، لأن ممارسة شئون الحياة مع الفصل التام بين الجنسين أصبح غير ممكن في هذا العصر، فإما أن ينسحبوا من الحياة، ويعيشوا في التاريخ السحيق، وإما أن يضطروا إلى العيش داخل هذه الحياة مع شعور قاتل بالذنب والحُرمانية، لأن مصيرهم المحتوم هو جهنم وبئس المصير ، وفق ما يفتى لهم .
وهذه الروح السوداوية حين تسيطر على أذهانهم في هذه السن كثيرا ما توقعهم في الحرام فعلا، فمادامت تصرفاتهم البريئة في حياتهم الطبيعية حراما، فسوف يمارسون -إذن- كل متع الحياة، المحظور منها والمباح، فقد علموا بمصيرهم المحتوم، وبهذا تُقام بينهم وبين دينهم جُدر صماء عازلة، فيكون الوقوع في براثن الإدمان والإلحاد هما الملجأ الوحيد للهروب من الشعور الدفين بعدم الرضا عن أنفسهم.
أما الخيار الثاني -كما تقول-: وهذا لا يتجه إليه غير المفتي البصير بالنفس والواقع- فهو الأخذ بمبدأ فتح الذرائع ، وهو مبدأ أصلَّ له كثير من الأصوليين، ويعنون به: إخراج الناس من حيز الضيق والمشقة والحرج إلى باب السعة والمرونة، بتيسير الفتوى عليهم متى تحققت مصالح واقعهم المعيش، فالفتوى بحرمة الاختلاط إطلاقا بين الجنسين في هذا العصر، عودة بالإناث إلى البيوت، فلا تعليم ولا عمل ولا ىسفر، وقال ابن القيم: " ما حُرم سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة".
لكن هل تفتح الذرائع هكذا بلا ضوابط ولاحدود؟
قطعا: لا، لأن تعاليم الشريعة محاطة بالقواعد الخلقية الثابتة والضابطة، ومتى ما انهدمت قاعدة منها انهدم الدين، وعلى من يريد أن يلزم باب سد الذرائع أن يلزمه في خاصة نفسه وأسرته، ومن باب التورع وليس من باب التحريم، فالقول بالتحريم شديد عند الله تعالى، أما التورع فهو مقام اختياري محمود، ولكنه خارج دائرة الفتوى".
هذا كلام عقلاني وواقعي منبضط للدكتورة الفاضلة، والحاصل أن الذين يُظهرون الغيرة على المرأة وحقوقها عليهم أن يرفضوا العادات الجاهلية، ويقاوموا التضييق على المرأة، والفهم المغلوط لقضياها يمنة أو يسرة، ولا داعي لأن نتعصب لما نجهله، فحماية الإسلام من أتباعه الجهلة أولى من حمايته من أعدائه السافرين، وإن صياح الغلاة من المسلمين ألقى في نفوس الناس صورا كالحة متشددة شائهة عن الإسلام ونظرته للمرأة.