دائماً مصر ولَّادة للعلماء فى شتى المجالات، ومن النماذج الكبرى التى لها شأن ومكانة وتعد سيرتُهم الذاتية ذخيرة أكاديمية وإنسانية للأجيال الحالية والقادمة؛ الطبيب المصرى العالمى الدكتور مجدى يعقوب، جرَّاح القلب، أو كما يلقبونه «ملك القلوب»، ومنذ أيام صدرت (مذكرات مجدى يعقوب.. جرّاح خارج السرب)، ليطَّلع الأجيالُ على هذا النموذج المصرى العربى العالمى، الذى حقق نجاحات مبهرة فى الأوساط الطبية، مع ما تميز به من إنسانية وعطاء وحب لوطنه.
صدرت مذكرات الدكتور مجدى يعقوب فى نحو 400 صفحة، عن الدار المصرية اللبنانية، بثلاث مقدمات؛ الأولى للدكتور محمد غنيم، رائد زراعة الكلى فى مصر والعالم، والثانية للدكتور مصطفى الفقى، السياسى البارز، ومدير مكتبة الإسكندرية سابقاً، والثالثة للسيدة مارى آرتشر، الكيميائية وعضو مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، وقام بجمع المادة العلمية: سيمون بيرسن، وفيونا جورمان، وهما صحفيان مشهوران فى «التايمز»، واستغرق عملهما ثلاث سنوات لإخراج هذه المذكرات، التى ترجمها المترجم البارع أحمد الشافعى.
يقول صديقه د. محمد غنيم، عند زيارته للصرح الطبى فى أسوان «مؤسسة مجدى يعقوب لأمراض وأبحاث القلب»: «أدهشنى حسن التنظيم، وحداثة التجهيز، وكفاءة العاملين من الأطباء وهيئات التمريض، وكلهم من المصريين الذين كان له الفضل فى تدريبهم وتحفيزهم، فتولدت مدرسةٌ علمية فى مجال أمراض القلب وجراحاته، ولم يقتصر نشاطه على بلده الأم، بل امتد متطوعاً لبلاد أخرى فى أفريقيا تعانى من فقر الموارد المالية والبشرية؛ إسهاماً منه فى علاج مرضاهم، وتدريب أطبائهم».
والذين عرَفوا مجدى يعقوب واقتربوا منه، شهدوا أنه إنسان قبل أن يكون طبيباً، وأن دواعى الإنسانية والمروءة والحب هى التى تحركه لإنجاز المهام العظيمة فى مراحل حياته المختلفة، قبل وبعد بلوغه سن التقاعد فى الخامسة والستين من عمره، فقد جمع الطبيب المصرى الكبير بين علاج المرضى، والابتكار فى طب جراحة القلوب، وترسيخ ما توصل إليه من نظريات، منذ أن كان فى جامعة شيكاغو، وأسفرت جهوده عن آلاف الأوراق البحثية فى مجال القلب، وهو نتاج مذهل ومشرِّف.فى كل عام يُولد عشرة ملايين طفل بعيوب خِلقية فى القلب، فلا يجد 75% منهم -وأغلبهم فى البلاد النامية- الرعاية التى يحتاجون إليها للنجاة، وطالما أرَّقت هذه التفاوتات فى توفير الرعاية الصحية الدكتور مجدى، وقد ازداد اهتمامه ببحث سبل تقليصها، فكان ذلك شاغله حينما أقام جمعية سلسلة الأمل الخيرية فى المملكة المتحدة سنة 1995م، ولم يزل هو المحرك الكامن وراء توسعها المستمر فى أديس أبابا وأسوان ورواندا وغيرها، وفى الوقت نفسه يستمر فى البحث عن علاجات وتقنيات جديدة، إذ يسعى حالياً العلماء التابعون له فى مراكزه البحثية المتعددة إلى البحث عن سبل إنماء صمامات وأعضاء بديلة من الخلايا الجذعية، واستكشاف إمكانات تعديل الجينات لمكافحة قصور القلب، ومن ثَم فقد «لمس قلوب الناس» بالمعنى الحرفى الذى تعنيه هذه الكلمة.
إن الطبيب الكبير، وقد اقترب من الثمانين من عمره، لهو نموذج يُحتذى فى الاستفادة من الوقت فيما ينفع الناس، فهو من الموفقين، وشرف الوقت لا يعرفه إلا الموفقون، ومن عرف شرف الوقت لم يفرّط فى لحظة منه، فكل ساعة بل كل دقيقة من حياة الطبيب الكبير قد وجهها إلى أشرف ما يكون، وترك الفضول، وصاحب المجدين النبهاء، وكوَّن طائفة من العلماء الأفذاذ، فصار علامة مصرية فارقة، ولم يسترح إلا النذر اليسير، ويقرأ سريعاً، ويكرس حياته لعمله ومرضاه.
ومع تقدم سِنه لا يزال ظمؤه إلى التعلم -أى البحث عن الحقيقة من خلال العلم- على حد تعريفه، كاملاً لا يعتريه نقصان، تولدت منه أفكار ألهمت أجيالاً من الأطباء، وحفّزت على البحث، وأفضت إلى فتوح طبية مهمة، وأنقذ الكثير من الأنفس، وكان من جملة مرضاه أثرياء، وذوو سلطة، وفقراء ومحتاجون، والفقراء -لا الأثرياء- هم شغله الشاغل.
مذكرات مجدى يعقوب تكشف الغطاء عن أثر والده فى حياته، فقد كان والده، واسمه حبيب، جرّاحاً عاماً فى أحد مستشفيات الحكومة، وكان رجلاً سمحاً، وأما أمه فكانت ابنة قاضٍ، وكانت صارمة، تريد لأولادها النجاح والتفوق، وكان دأب والده أن يلقن أبناءَه القيم، فيقول لهم: «إننى لا أريد أن أورثكم مالاً، وليس لدىّ منه الكثير أصلاً، ولكننى أريد لكم قدراً طيباً من التعليم والمعرفة، ولن يخذلكم هذا أبداً، فأموت راضياً، وقد تركتكم قادرين على تولى أمور أنفسكم».
يقول مجدى يعقوب موجهاً رسالة للشباب والكبار من مختلف الأعمار والأعمال، محفزاً لهم على النشاط والهمة والأمل: «إن التركيز هو المفتاح، فإياك أن تفقد التركيز، ولا تُحِد عينيك عما أنت راغب فى تحقيقه، وتعريفى الخاص بالنجاح هو أن تحاول أن تعثر بدقة على ما تريده من حياتك، ثم تشرع فى تحقيقه بدأب وجلَد، والنجاح نسبى، ولا تعريف له إلا تعريف كل فرد له».هذا كلمات مضيئة للشاب مجدى يعقوب، قالها وهو فى سن الخامسة والعشرين، أى من نحو ستين سنة، قبل أن يستقل السفينة من ميناء الإسكندرية متجهاً إلى أوروبا، وهو يعرف أهدافه، ويسعى لتحقيقها.
إننى لأقف وقفة احترام وتقدير للسير مجدى يعقوب وأنا أقرأ فى مذكراته حبه لمصر ولمدينة أسوان، يقول: «سألت نفسى: ماذا أفعل بكل التطورات والاكتشافات العلمية؟ ولصالح مَن؟ ثم اتضح الأمر تماماً.. لصالح الإنسانية، هى لصالح الجميع»، وهنا بدأ «يعقوب» يكثر من زيارته لمصر، فيقول: «برزت مصر أكثر فأكثر، فكان التفاعل بين سلسلة الأمل ومصر يشكل جزءاً كبيراً من حياتى، وتكلمت الإنجليزية، لكننى فى القلب بقيت مصرياً، والعربية لغتى الأم، وحبى لمصر عميق، ومكانتها عندى فريدة».
جاء «يعقوب» إلى القاهرة، وألقى المحاضرات فى القاهرة والإسكندرية، وظهر فى برنامج «صباح الخير يا مصر»، وقال فيه إننى مستعد مع فريق من بريطانيا لفحص أى طفل مصرى لديه مرض خِلقى فى القلب، وإجراء جراحة له بالمجان، وفى الصباح التالى كان آلاف الناس يقفون بأطفالهم المرضى أمام المستشفى، وحدث تزاحم، وتحول الأمر إلى شغب، حتى اضطررنا إلى الهرب للسطح فى حراسة الشرطة، ولم نتمكن إلا من فحص بعض الأطفال فقط، وعلمت أن عدداً من أسوان قد جاءوا فى القطار كل هذه المسافة الطويلة، دون أن يتمكنوا من فحص أطفالهم المرضى، وكانوا فى حالة يُرثى لها».
هذا المشهد الإنسانى هو الذى حرّك الدكتور مجدى يعقوب لمعالجة التفاوتات الإقليمية فى وطنه، ورد الجميل إلى شعب أسوان، ومن هنا جاءت فكرة إقامة مؤسسة مجدى يعقوب فى أسوان، يقول الطبيب الكبير: «تذكرتُ ذلك المجتمع الرائع، متعدد الأعراق، الذى تعرض أهله للإهمال فيما يتعلق برعاية القلب، ولذلك وقع الاختيار على أسوان».
واليوم صار اسم «مجدى يعقوب» يُستخدم فى منظمات إنسانية عديدة، وفى قضايا العمل الخيرى، وهكذا كان صاحبه ذا تأثير عالمى كبير، على مستوى الطاقة الهائلة، والعمل الإنسانى، والابتكارات الحديثة، وحب وطنه المصرى، ودعم الفقراء، والتخلق بالجمال، والإكثار من مواقف المروءة والبذل.ودار الإفتاء المصرية -وفى القلب منها الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم- تفتخر بالنماذج الوطنية الأكاديمية المرموقة التى قدمت خدمات كبيرة للبشرية عامة وللوطن المصرى خاصة، ومن ثَم ننصح شبابنا بقراءة هذه المذكرات، والاستفادة من مواقف صاحبها، والاقتداء به، ونأمل فى إصدار نسخة من المذكرات مختصرة سهلة تناسب النشء والأطفال.