أسوأ ما فى الزلازل أنها تأتى بغتة، ولا يستطيع أحد التنبؤ بها أو وقفها، فتأتى على الأخضر واليابس، وتقتل البشر والحيوان وتهدم الحجر، وأعتقد أن ما تنوى قوات الاحتلال القيام به فى قطاع رفح الفلسطينى سيؤدى إلى نفس نتيجة الزلازل، وإن كان يختلف عنها لأن موعده سيكون معلوماً، وإن كان المجتمع الدولى يعجز عن وقفه، رغم يقين الجميع بما سينتج عنه من مأساة بشرية لم يشهدها العالم من قبل، سواء فى الكوارث الطبيعية أو الحروب، حيث يتكدس كل سكان غزة فى هذا القطاع الضيق، بعد أن أجبرتهم قوات الاحتلال الإسرائيلى على ذلك، حيث خططت لهذا السيناريو منذ بدء حرب الإبادة التى مارستها فى قطاع غزة قبل ٢٠٠ يوم.
كل دول العالم وقفت عاجزة أمام حرب الإبادة البربرية والمجازر الجماعية التى ترتكبها إسرائيل فى حق الفلسطينيين، وأصبحنا أمام ١١٠ ألف ضحية فلسطينية ثلثهم شهداء من النساء والأطفال!
وفى حالة اجتياح رفح سيتضاعف هذا الرقم، فهدف نتنياهو الاستراتيجى هو إبادة الفلسطينيين ومحوهم من فوق الأرض إما قتلاً أو تهجيراً قسرياً.
وأمام هذا العجز الدولى وغياب الضمير العالمى، وقفت مصر من اليوم الأول مدافعة عن الحق الفلسطينى، ومنادية بضرورة حل الدولتين وإقامة دولة للفلسطينيين عاصمتها القدس الشرقية، ورفض تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، سواء لمصر أو لأى بلد آخر، ومقاومة الصلف الإسرائيلى وتعنت قوات الاحتلال فى دخول المساعدات الإنسانية والطبية، وواجهت كذب الكيان الإسرائيلى الذى ادعى أمام محكمة العدل الدولية أن عرقلة المساعدات كانت بسبب غلق معبر رفح من الجانب المصرى، وقدمت مصر على الفور مذكرة قانونية تفند ادعاءات إسرائيل.
وكانت مصر وهى تدافع عن الحق الفلسطينى، تحافظ أيضاً على أمنها القومى وتفسد كل محاولات الجانب الإسرائيلى لإقحام مصر كطرف فى الأزمة، ولكن مصر بقوتها ودبلوماسيتها ظلت ثابتة على دورها الرئيس كجزء من حل الأزمة وليست جزءاً من الأزمة، وتذكروا محاولات إسرائيل دخول آلاتها العسكرية محور فيلادلفيا، وكيف رفضت مصر ولوَّحت ببنود معاهدة السلام وضرورة التزام إسرائيل بها، فأحبطت المخطط الإسرائيلى.
مصر رغم انحيازها المعلن والثابت والتاريخى للحق الفلسطينى، إلا أنها ظلت هى الوسيط النزيه بين إسرائيل وحماس، لتحقيق الهدنة ووقف الحرب وتبادل الأسرى الفلسطينيين الموجودين بالسجون الإسرائيلية بالرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى «حماس».
ونجحت الوساطة فى نوفمبر الماضى، وتم تنفيذ أول هدنة وإدخال المساعدات وتبادل الأسرى بالرهائن.. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى تقوم فيها مصر بالوساطة.
ففى عام 2008، أدت هدنة إلى وقف إطلاق النار بعد هجوم إسرائيلى على قطاع غزة، كانت مدتها 6 أشهر بوساطة مصرية، وقضت الهدنة بوقف إطلاق النار، وتخفيف الحصار على غزة وفتح جميع المعابر الحدودية.
إلا أن هذه الهدنة انهارت سريعاً فى الشهر التالى، بعدما شنت إسرائيل هجوماً برياً موسعاً على القطاع الساحلى.
وفى عام 2012 بعد 8 أيام من القصف الإسرائيلى المكثف على غزة، توسطت مصر، فتمت الهدنة وتوقف العنف، وتم إدخال المساعدات الإنسانية وفتح المعابر.
لكن هذه الهدنة تعثرت أيضاً بعد أن اتهمت «تل أبيب» مصر بالانحياز إلى حركة حماس.
وفى عام 2014، وبعد حرب دامت 50 يوماً وخلَّفت أكثر من 2000 شهيد فى غزة، قضت هدنة بوقف إطلاق النار وفتح المعابر لنقل المساعدات الإنسانية ومستلزمات الإعمار، إلا أنها فشلت أيضاً بعد تواصل المعارك فى قطاع غزة، وتبادل إسرائيل وحماس المسئولية عن ذلك.
وكانت مفاوضات الهُدن السابقة على ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ أسهل بكثير عن التى جرت وتجرى بعد هذا التاريخ، لأن نتنياهو وحكومته المتطرفة، وهم يشنون حرب الإبادة يريدون القضاء على «حماس» نهائياً، وهذا يصعِّب الأمر على الوسيط المصرى -المنحاز علناً للفلسطينيين- ويريد تقريب وجهات النظر لوقف نزيف الدم الفلسطينى.
ولكن للأسف «حماس» لم تعِ هذا جيداً، فلم يكن من المفيد قيام «حماس» بعملية كرم أبوسالم الأخيرة يوم الأحد الماضى والتى قُتل فيها ٤ جنود إسرائيليين، أثناء المفاوضات الجارية حالياً بين الطرفين -إسرائيل وحماس- والتى بذلت فيها مصر مجهوداً جباراً للتوصل لوقف الحرب ونزع فتيل انفجار الوضع فى رفح، بعد أن منحت إسرائيل «حماس» مهلة أسبوع للرد على بنود الهدنة وإلا ستجتاح رفح.. حيث يمكن لإسرائيل أن تتخذ من هذه العملية ذريعة لتنفيذ تهديدها ووقوع مزيد من الشهداء الفلسطينيين من النساء والأطفال والعجائز.
اجتياح رفح، بالإضافة إلى كارثيته البشرية، فإنه سيؤدى إلى توسيع دائرة الصراع فى المنطقة، وقد يؤدى -لا قدَّر الله- إلى نشوب حرب عالمية ثالثة.
**
رغم تأزم الموقف، إلا أن مصر ما زالت مصرة وتعمل جاهدة على إدخال المساعدات الغذائية والطبية ووسائل الإعاشة للفلسطينيين فى رفح، عبر معبر رفح الذى ما زال مكدساً بعشرات الشاحنات التى تحمل المساعدات المصرية والقادمة من كل دول العالم، حيث سيظل معبر رفح المصرى هو الملاذ الآمن لتوصيل المساعدات.