من أجمل خصائص المدن القديمة هو ذلك التجاور والتداخل بين الأمكنة والأزمنة، حيث يمكنك أن تعيش الماضى البعيد والقريب والحاضر فى الوقت نفسه.
لا يمكنك أن تتجول فى باريس أو بكين أو إسطنبول أو القاهرة أو الإسكندرية دون أن تستدعى ذاكرتك ما قرأته أو سمعته أو شاهدته عن تاريخ هذه المدن، وحتى لو لم تكن قد قرأت أو سمعت عنها، فهى تحمل كل هذا التاريخ فى عمرانها وطرقها وروائحها وطباع وسلوك سكانها.
ولكن هناك فارقاً كبيراً أيضاً بين التجول فى المدن القديمة كسائح وزائر عابر وبين أن تكون قد ولدت وعشت فيها وأصبحت، أنت نفسك، جزءاً من هذا التاريخ.
والمشكلة التى يمكن أن تنشأ فقط هى أنك، بحكم عيشك الدائم على مدار الساعة فى هذه المدينة القديمة، أو تلك، لا تعود تشعر بهذه الخصائص، وربما تتبرم منها، على عكس الزائر القادم بعيون مفتوحة على اتساعها للاستكشاف والتجربة.
إذا تأملنا، على سبيل المثال، تاريخ السينما فى مصر على مدار القرن الماضى، منذ النشأة الأولى وبداية ازدهار دور العرض السينمائى ومولد عادة وطقوس التردد على دور العرض لدى الطبقات العليا والوسطى والدنيا، وصولاً إلى حاضرنا الآنى، نجد أن معظم دور العرض القديمة قد اختفت، وانكمشت عادة الذهاب للسينما، وشهدت طقوسها تحولاً هائلاً بظهور «المجمعات السينمائية» بقاعاتها متناهية الصغر داخل «المولات» العملاقة المتشابهة حد التطابق والتى تفتقد لأى خصوصية تميزها عن بعضها البعض.
بالنسبة لى، فقد ولدت وعشت جل حياتى فى منطقة وسط البلد، وهى قلب القاهرة التى هى قلب مصر، أى قلب القلب. وقد عرفت السينما ودور العرض السينمائى منذ طفولتى عبر دور عرض وسط البلد والأحياء المجاورة، حيث كان يمكنك أن تحصى خمسين دار عرض أو أكثر على مسافة سير صبى صغير من منزله.
إذا أردت أن تعرف يعنى إيه سينما، بالمعنى التقليدى للكلمة، أو بالتحديد السينما منذ عشرينات القرن العشرين ومشارف القرن الجديد، التى تحولت تدريجياً إلى أكثر الفنون شعبية وتأثيراً فى المجتمعات والأفراد، والتى جمعت بين جنبات مسارحها كل الطبقات والفئات، وإذا أردت أن تعيش بعضاً من طقوس وعادات مشاهدة هذه السينما، فإن المكان الأفضل لذلك هو دور عرض وسط البلد، التى قد تكون فقدت الكثير من أعدادها وفخامتها ومعالمها، بل وتحول الكثير منها إلى قاعات صغيرة تقلد سينما «المولات» التجارية، ولكنها، على الأقل فى مواسم العيد وبعض المناسبات الأخرى، تستعيد بعضاً من روحها القديمة.
المولات بطبيعتها البرجوازية المنشأة التى تسعى لتحويل كل البشر إلى نمط استهلاكى واحد يسهل استغلاله والتحكم فى رغباته وميوله ومحفظته، حولت طقس مشاهدة السينما إلى «رمز» تجريدى، مثلما حول الفانوس الكهربائى البلاستيك فانوس رمضان إلى «رمز» لما كان عليه قبل انتشار الكهرباء، عندما كان الكبار يستخدمون الفوانيس لإضاءة الشوارع والبيوت وأماكن السهر، وكان الأطفال يتجولون بها يغنون ويحصلون على هبات الكبار، مضيئين عتمة الليل ومحدثين حالة من البهجة فى الليالى المعتمة.