"مفيش زباين".. مراكب الفسح ترسو على الشاطئ منذ 4 أعوام
«المراكب بقت تقف جنب بعضها هنا بالأسبوع والاتنين من غير ما تتحرك، على ما تعمل دور واحد أو يجيلها زبون عاوز يتفسح بعشرة جنيه، سواء كانوا شوية شباب صغيرين، أو أسرة مع بعضها عاوزين ينزلوا يتصوروا فى الميه ويرجعوا» يقول الحاج صلاح سكر، شيخ المراكبية فى منطقة القناطر الخيرية، وأضاف أن المراكب النيلية لم تعد كسابق عهدها، ولم يعد فى مقدورها الآن الإنفاق على أسر العاملين بها، خاصة أن المركب الواحد يتولى مسئولية عدة أسر، مالكها والعاملين عليها، وفى ظل حالة الركود التى ضربت القناطر على مدار الأربع سنوات الماضية غالبية العمال هجروا المنطقة إلى أخرى للبحث عن الرزق، والبعض الآخر استبدلها بأى عمل آخر يضمن له حياة كريمة، ويكفيه شر حياة التقشف التى أصابتنا منذ أربعة أعوام، «ولسه مش عارفين الأيام الجاية مخبية لنا إيه تانى».
يضيف «سكر» أن أغلب زوار القناطر الآن من الصوماليين والسودانيين الذين يأتون بشكل منفرد، كل أسرة على حدة، فى ظل غياب تام للأجانب والعرب الذين يفضلون التنزه فى نيل القاهرة بجوار الفنادق التى يقيمون فيها، بعد توقف أصحاب المراكب عن تنظيم الرحلات النيلية التى كانت تنقلهم للتنزه هنا وقضاء اليوم وسط الحدائق والشاليهات المطلة على النيل مباشرة، والآن تغير الوضع وأصبح عملنا يقتصر على رحلات الشباب وبعض الأسر التى لا تستغرق أكثر من نصف ساعة داخل مياه النيل.[FirstQuote]
أشرعة تتمايل يميناً ويساراً تحت تأثير الهواء، من أعلى مراكب بيضاء تتزين لاستقبال الزائرين، تتراص بجوار بعضها البعض على جنبات شاطئ نيل القناطر الخيرية من ناحية رصيف الطريق العمومى، على بعد أمتار قليلة من أصحابها الذين يتكئون على كومات ترابية فى انتظار الفرج،
يقول مسعود إبراهيم، صاحب مركب: ورثت المهنة أباً عن جد منذ ما يزيد على 20 عاماً، عندما كان المراكبى «شخص كسيب» يستطيع الإنفاق على عشر أسر، نتيجة ضغط العمل الذى كان لا ينقطع، كنا نقوم بتنظيم رحلات تستمر فى الإبحار لمدة يوم كامل، نخرج بعد أذان الفجر، نضع تموين الرحلة من مأكولات ومشروبات وكل ما يلزم السفر، ونظل طوال اليوم نبحر فى مياه النيل، ونعود بعد انتهاء اليوم، ونظراً لغياب الراغبين فى الخروج فى هذه الرحلات على مدار الأربعة أعوام الماضية منذ قيام ثورة 25 يناير، أجبرنا على توقيفها والاكتفاء «بأننا ناخد لفة فى الميه بالزبون على ما ياخد له كام صورة ونلف ونرجع بيه تانى».
وأضاف الرجل الأربعينى: لم يتبق من مهنة «المراكبى» سوى اسمه والمركب الذى يمتلكه، حيث اتجه غالبيتنا للعمل فى الأفراح وتنظيم رحلات خطوبة يتجمع فيها العروسان وبعض أصدقائهما فى رحلة لا تتجاوز مدتها الساعة مقابل مبلغ 100 جنيه، قد تزيد وقد تنقص «بناخدهم نلف بيهم ويطلع عينينا والمقابل مايجيش تمن السولار اللى الماتور بيحرقه، يعنى الواحد مننا يبقى قاعد طول النهار جنب المركب بتاعه وآخر النهار يروح من غير ولا مليم فى جيبه، والأكتر من كده أن ماتور المركب بيبقى محتاج صيانة شهرية وإحنا مش معانا ولا مليم»، الأمر الذى أجبر الكثير من عمال المراكب على التوقف عن العمل وتركه للشباب الصغار غير المسئولين عن أسر، ومتطلباتهم المعيشية بسيطة للتكسب منها، خاصة أن فئتهم العمرية متوافقة مع سن الشباب الذين يأتون لركوب المراكب، الذين يرغبون فى سماع أغان بعينها ويفضلون أن يكون قائد المركب قريباً من عمرهم.[SecondImage]
«بقينا نحمل المركب بـ2 جنيه للفرد، بنقول أحسن من ركنتها، يعنى بدل ما كنا بنشتغل شغل مزاج بتاع سياحة، ونفضل طول الرحلة نضحّك ونفرفش اللى راكبين معانا، بقينا زى سواقين الميكروباص والتوك توك، عاوزين ننهى المشوار علشان ناخد بنديرة التوصيل وخلاص» مما دفع أحمد سالم صاحب مركب للتخلى عن مركبين كان يمتلكهما والاكتفاء بواحد فقط نظراً لتعرضه لظروف مادية صعبة ارتبطت بموعد سداد أقساط زواج ابنه، فاضطر للاستغناء عنهما لسداد ديونه، بالإضافة إلى أنهما لا يدران ربحاً عليه.
لم ينته الأمر بالرجل الخمسينى عند هذا الحد، لكنه أصر على تغيير مهنة أبنائه ورفض استمرارهم فى العمل بالمهنة التى ورثها عن والده «أنا ورثت عن أبويا مهنة كانت بتأكلنى الشهد، اشتريت بيت واتجوزت وحوشت من وراها فلوس، فمش من الطبيعى أنى أورث ولادى الفقر وقلة الحيلة، قولتلهم اتعلموا صنعة تنفعكم وماتبقاش مرتبطة بمواسم»، وهو ما حدث الفعل، فأتقن ابنه الأكبر مهنة البناء، والآخر أصبح سائق ميكروباص، والآن يتوليان مهام الإنفاق على المنزل.[SecondQuote]
حسن حسين، شاب عشرينى عمل لمدة عامين كصبى على أحد المراكب يصفهما بأنهما الأسوأ على مدار حياته، بسبب عدم حصوله على دخل مناسب يمكنه من إعالة أسرته المكونة من والدته وشقيقتيه، فاتجه للعمل فى أحد المقاهى الشعبية القريبة من مرسى المراكب مقابل مبلغ 10 جنيهات يومياً، حيث يقول «اشتغلت على مركب بعد الثورة بـ8 شهور والمعلم قالى هاخد فلوس على كل طلعة، اليوم بقى يعدى من غير ما المركب تتحرك، وفضل الوضع كده سنتين، أكتر يوم بروح فيه بتمن علبة سجاير فى جيبى، لحد ما صاحب المركب نصحنى أشتغل فى القهوة على الأقل هيبقى لى مرتب ثابت وعارف أنا هروح بإيه».
حلم شراء مركب والعمل على تحويله إلى تحفة سياحية يقصدها الناس من جميع أنحاء العالم، راود الشاب العشرينى لبضعة شهور قبل أن يلتحق بعمله فى مرسى القناطر الخيرية ويصطدم بالواقع الذى وصفه بالمرير بسبب غياب السائحين والزوار عنه بشكل كامل «كنت بحلم أعمل رحلات جوه المية بسعر قليل علشان الناس كلها تشوف النيل من جوه بدل ما هما بيسمعوا عنه وخلاص، واتفقت مع صاحب المركب على كده وكان موافق، بس هنعمل رحلات إزاى والناس بطلت تعدى من على القناطر؟».
مشاهد ذهاب ومجىء السياح الأجانب والوفود العربية داخل القناطر الخيرية قبل خمس سنوات، لا تزال تسيطر على ذاكرة «حسن»، حيث يقول: كنت أشاهد الزائرين العرب والأجانب وهم يجلسون على مرسى المراكب فى انتظار عودة مركب من رحلته لاستقلاله والتنزه به داخل مياه النيل، بخلاف المصريين الذين كانوا يجلسون لتناول الطعام على الأرضيات الخضراء داخل الحدائق، وسباق الدراجات والموتوسيكلات يزيد الحركة زحاماً داخل المنطقة، الجميع كان يعمل فى روح من المنافسة الشريفة، وآخر اليوم كان كل فرد يعود إلى أسرته محملاً بجميع متطلباتها «الشغل هنا كان عامل ذى خلية النحل الكل بيجرى ويشتغل ويكسب، والمحلات شغالة والمراكب رايحة جاية فى النيل والسياح واقفين فى الضل مستنيين مركب يحن عليهم ويركبهم، مش زى دلوقتى لما بنشوف مركب فى وسط النيل بنحسد صاحبها لأنه لقى حاجة يُرزق منها».