من يتابع تصريحات كبار مسئولينا هذه الأيام يشعر بأننا نعيش فى واحد من أهم عصور «الغناء المصرى». فمن يستمع إلى العبارات التى تحملها هذه التصريحات يمكن أن يتساءل: كيف ضلّ بعض كبارنا طريقهم إلى «تأليف الأغانى». دعنى أستعرض لك نماذج على ما أقول لعدد من التصريحات التى تواترت على ألسنة بعض المسئولين خلال يوم واحد (أمس الأول). نبدأ بالكبير.. أقصد طبعاً المهندس إبراهيم محلب، فأثناء تسليمه عدداً من وحدات الإسكان الاجتماعى لأهالى مدينة «بدر»، وهو جهد يُشكر عليه ولا شك، قال: «المواطن دائماً على حق»، فى معارضة واضحة للعبارة الإعلانية الشهيرة التى تقول: «الزبون دائماً على حق».. لأنه هو الذى يدفع طبعاً! عبارة «محلب» غنائية، لأن العديد من المواطنين يعتبرون أن حقوقهم ضائعة مع الحكومة، وأن المواطن لا يستطيع أن يأخذ مع السلطة حقاً ولا باطلاً. جميل أن بقول رئيس الحكومة: «المواطن دائماً على حق»، لكن الأجمل أن يفهم أن المواطنين يتغنون ليل نهار بالبيت الشعرى الذى يقول: «دواليك دواليك.. لكى يعطيك واليك..»!
التصريح الغنائى الثانى الذى ظهر خلال اليوم نفسه جاء على لسان المستشار أحمد الزند وزير العدل الجديد، فقد قال خلال لقائه عدداً من القضاة بمحكمة الإسماعيلية: «لا يوجد قاض ترهبه الاغتيالات، وما عندناش قاضى بيخاف، كلنا أسود».. كلام جميل وكلام معقول ماقدرش أقول حاجة عنه، فمن يؤمن أنه صاحب حق لا يهاب أحداً، لكن حديث «الأسود» أكسب التصريح مذاقاً غنائياً فريداً، أتصور أن المواطن البسيط ليس بحاجة إليه، خصوصاً أن هذا الوصف أدخله فى متاهات التفكير فى الغابة التى يتسيدها الأسد ويقبع إلى جواره أشباله، وزوجته «الأسداية» -على سبيل التأدب- ليدير المشهد بين حيواناتها الذين يحكمهم بقوته. ومن الممكن أن يجمح خيال المواطن البسيط وهو يستمع إلى مثل هذا التصريح أكثر من ذلك، وحقيقة الأمر فإن البسطاء لديهم حنين جارف إلى العدل، هم متأكدون أن قضاتهم أسود لا يهابون الموت، لكنهم يريدون منهم أن يظلوا حصناً للعدل والعدالة فى تطبيق القانون على الجميع وتوظيف شجاعتهم النادرة من أجل محاربة الفساد الذى يعشش فى أركان عديدة من حياتنا.
وقد ذكر التقرير الذى غطى لقاء المستشار الزند مع قضاة الإسماعيلية أن مواطنة اعترضت موكب الوزير قائلة: «يا معالى الوزير، ركز فى قضايا الفساد المسكوت عنها هنا»، وأعطته ملفاً وقالت له: «ده أحد ملفات الفساد.. وبينى وبينك الورق».. فرد عليها الزند: «أنا فى انتظارك فى مكتبى فى الوزارة من يوم غد، ولن نسكت على فساد». هذا هو الكلام.. وأسود القضاء الآن تحت الاختبار، فالاستئساد الحقيقى يجب ألا ينغلق على مواجهة الإرهاب وفقط، فهناك خطر أكبر يرتبط بالفساد، وهو يتطلب قدراً أكبر من الجسارة فى مواجهته، لأنه يعنى ببساطة الدخول فى «عش دبابير»، ثمة قضايا فساد عديدة تورط فيها كبار فى نهب أراض وأموال، واستغلال نفوذ، وأتصور أن المستشار «الزند» يعلم تفاصيل ذلك أكثر منى، وهو مطالب بمواجهة الفاسدين بأشد درجات «الأسودية»، فالاختبار الحقيقى لقضاتنا الأسود يرتبط بمواجهة أشاوس الفساد، حتى يقولوا إن الله حق، ويفهموا الفارق بين الأسد والنعامة!