محامى الفقراء
من المفارقات الغريبة أن الأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى ولد فى 10 نوفمبر 1920 ومات فى نفس اليوم من عام 1987. وما بين «النوفمبرين» 67 عاما من الإبداع والبحث والثورة التى تشبع بها الشرقاوى فى قريته «الدلاتون» بمركز شبين الكوم حينما كان يرى جموع الفلاحين تخرج غاضبة بفؤوسهم تهتف ضد قهر الاحتلال الإنجليزى وظلمه.
ومن القرية للمدينة حمل الشرقاوى غضبه على الاحتلال وهو ما زال صبيا بمدرسة «المحمدية» الابتدائية، وشارك فى مظاهرات الطلبة فى عام 1932 ومعهم توجه إلى دار المندوب السامى الإنجليزى فى ميدان الحلمية، وشاهد سقوط بعض الصغار يدهسون بلا رحمة تحت حوافر خيل الجنود الإنجليز.
بعد تخرجه فى كلية الحقوق عام 1943، لم يجد الشرقاوى الذى كان يحلم بالعمل فى بلاط صاحبة الجلالة سوى فرصة للعمل كموظف فى إدارة التحقيقات بوزارة المعارف فى مكتب واحد مع أحمد بهاءالدين وفتحى غانم.. وكل منهم كان يخفى تحت طربوشه آمال عريضة لا يتسع لها قفص الوظيفة الميرى، وسرعان ما غادرها الثلاثة، كلٌّ إلى غايته، وإن جمعتهم فيما بعد النجومية فى عالم الصحافة والسياسة والأدب.
لم يطل المقام كثيرا بالشرقاوى بوزارة المعارف وغادرها للعمل صحفيا بعدة صحف قبل ثورة يوليو، كان أشهرها جريدة المصرى التى جمعته بعدد من أكبر كتاب مصر ومنهم صديقه اللدود يوسف إدريس والكاتب الإسلامى الشهير خالد محمد خالد. وعرف الشرقاوى منذ احترافه الكتابة الطريق للمعتقل «رايح.. جاى»، وكان وراء كل اعتقال قصة وحكاية، فاعتقلته حكومة إسماعيل صدقى باشا -فى حكومته الثانية التى تشكلت فى فبراير1946- مع مائة من كتاب مصر بسبب معارضتهم لمهادنة صدقى للإنجليز، وقيل وقتها إن صدقى باشا أراد باعتقال الشرقاوى ورفاقه إظهار حجم الرفض الشعبى للاحتلال.
لكن عهد ما بعد ثورة يوليو كان يحمل للشرقاوى النصيب الأكبر من الأذى والإيذاء، حيث تم اعتقاله فى عام 1954 بتهمة الإساءة للسودانيين فى روايته «الأرض» التى نشرها على حلقات فى «المصرى»، لأنها تضمنت أغنية تقول: «يا بهية وخبرينى ع اللى قتل ياسين.. قتلوه السودانية من فوق ظهر الهجين»، وهو ما اعتبره محمد نجيب إساءة للسودانيين الذين تعود أصوله لهم من ناحية، وضربا للوحدة بين البلدين التى كانت مصر تسعى إليها بعد الثورة. بعد ثلاثة أيام أفرج عن الشرقاوى، وعند طبع الرواية فى كتاب قام بتغيير كلمة «السودانية» إلى «السود عينيه» التى نغنيها الآن!
وفى عام 1959 منع الأزهر كتابه «محمد رسول الحرية»، متهمين الشرقاوى بالتطاول على الرسول باعتباره مجرد مناضل من أجل الحرية وليس نبيا يوحى إليه. استغاث الشرقاوى بصديقه خالد محمد خالد فقال له: «لا تخف، إن للأزهر بركاته حتى فى خصوماته.. فقد منعوا كتابى «من هنا نبدأ» فأعيد طبعه ثلاثين مرة»، وصدقت النبوءة، فقد استنجد الشرقاوى بالرئيس عبدالناصر وبعث إليه ببرقية قال له فيها: «لأن تضعنى فى السجن الحربى أفضل من مصادرة كتابى»، طلب عبدالناصر نسخة من الكتاب وبعد الانتهاء من قراءته قرر تطبيقه على طلبة المدارس، وتُرجم الكتاب فيما بعد إلى عدة لغات أوروبية، وقيل إنه كان سببا فى اعتناق عدد كبير من الأوروبيين للإسلام!
ومع صدام عبدالناصر مع الشيوعيين أعد الأمن قائمة برموزهم، وكان من بينهم الشرقاوى، فشطب عبدالناصر اسمه لأنه مفكر منحاز للفقراء و«ليس له نشاط سرى». لكن حب عبدالناصر وتقديره له لم يحمه من مذبحة الصحافة التى أطاحت بعدد كبير كبار الكتاب -من بينهم نجيب محفوظ- فى عام 1964، وكانت هذه الواقعة هى أول صدام رئيسى بين ناصر ورموز التيار اليسارى المصرى. لكن الفصل والاعتقال لم يكفيان لقص لسان الشرقاوى، فكتب «الفتى مهران» فى عام 1966، وفيها وجه رسالة لعبدالناصر يدعوه للتخلص من الجوقة الفاسدة التى تحيط به، فعلى لسان مهران قال له: «يا أيها السلطان اترك عزلتك واختلط بالشعب يصبح قلعتك».
كانت قرارات الاعتقال فى سنوات ثورة يوليو حاضرة لكل الكتاب إلى درجة أن السادات -الذى كان يرأس تحرير جريدة الجمهورية فى الخمسينات- أمر ذات مرة باعتقال الشرقاوى لأنه كتب مقالا فى الجمهورية يدعو القيادة السياسية للانفتاح على السوفيت فى نفس العدد الذى كتب السادات فيه مقالا للتحذير من خطر الشيوعيين، وفى الصباح التالى حضر السادات إلى محبسه ودعاه للإفطار معه!
على المستوى الإنسانى كان السادات يحمل إعجابا وتقديرا للشرقاوى منذ أن جمعهما العمل معا فى «دار التحرير»، وفى عهده تولى الشرقاوى رئاسة مجلس إدارة «روزا اليوسف»، وكثيرا ما كان يستشهد السادات بمقالاته الجريئة كشاهد على حرية الصحافة فى مصر، لكن صبر السادات على «روزا» وكتابها والشرقاوى العنيد نفد، ووصل الخلاف إلى ذروته بسبب أحداث 17 و18 من يناير عام 1977 التى رآها الشرقاوى ورفاقه -ومنهم الروائى الكبير فتحى غانم- «انتفاضة شعبية» وكان السادات يراها «انتفاضة حرامية»! وبسبب «شعبية» و«حرامية» قدم الشرقاوى استقالته.
بعد خروجه من «روزا»، ركز الشرقاوى على مقالاته فى الأهرام، التى ظل فيها على عهده يلاحق السلطة وتلاحقه، فقد كتب الشرقاوى عدة مقالات قاسية للتحذير من هيمنة التطرف الدينى واستغلال الدين وشعار «العلم والإيمان» الذى رفعه السادات لمغازلة التيار الدينى، فتم منع هذه المقالات جميعا تماما كما منع مقال آخر يطالب فيه بعدم توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل.
كان عهد مبارك أشبه باستراحة محارب، فسنوات مبارك الأولى التى كان يستكشف فيها المصريين ويستكشفونه لم تكن لتسمح بالاشتباك، لكن مقالاته كل أربعاء فى الأهرام استمرت ساحة اشتباك مع كل خصومه فى الفكر والسياسة.. وقبل وفاته المفاجئة بسكتة قلبية بعدة أسابيع كتب الشرقاوى يندد بقانون الطوارئ الذى كان نظام مبارك متمسكا به منذ توليه السلطة مؤكدا أنه «لا حماية للحرية إلا بمزيد من الحرية، وإذن فلنطلق إنشاء الأحزاب..لنسد الفراغ السياسى المخيف الذى يستغله أعداء الإسلام وأعداء الوطن، ويجب أن تجد القوى الاجتماعية كلها تعبيرها فى أحزاب جديدة وصحف جديدة ويجب أن تلغى القوانين الاستثنائية.. فماذا أفاد قانون الطوارئ؟».
كانت أكثر معارك الشرقاوى تدور حول دفاعه عن الحرية والعدالة الاجتماعية والنضال ضد محاولة رأس المال استغلال الفقراء. وعكست كل كتاباته إيمانه بهذه الحقوق، فكان الثوار هم أبطال رواياته مثل «الحسين ثائرا» و«زعيم الفلاحين أحمد عرابى» و«الفتى مهران» و«صلاح الدين (النسر الأحمر)» وغيرها، وكان يكن إعجابا شديدا لأدب الصعاليك لأنه «يمثل صرخة احتجاج على الظلم وتمرداً على الأوضاع الجائرة».
وإيمان الشرقاوى بقضية العدالة كان وراء كل ما تعرض له من محن، وأحد أسباب خلافه الطويل مع شيوخ الأزهر، فكما عارض بعض شيوخه «محمد رسول الحرية»، شنوا حربا على «الحسين ثائرا»، وقال أحدهم ساخرا: «الشرقاوى يكتب عن «جيفارا وليس حفيد الرسول»، وقال آخر: «لم نكن نعلم أن الإمام الحسين شيوعى». كان الشرقاوى عادة ما يتجاهل هذه الصغائر، لكنه حين رد أسكت الجميع، وكان مما قاله: «تعلموا قبل أن تتهموا فتأثموا، وكفى اتهامات بالباطل، وعودوا إلى الإسلام الحق تجدوه أكثر تقدما من كل الفلسفات البشرية، أم أنكم ستسلبون الإسلام محاسنه لتضيفوها إلى الشيوعية؟!».
ورغم كل معاركه السياسية واشتباكه الدائم فى العمل العام، أبدع الشرقاوى كأديب متعدد المواهب وصفه أحمد بهاءالدين بأنه كان أمير الشعراء الجديد ولو شاء لبقى أميرا للشعراء ولكنه كان مفتونا بالسياسة والأدب فاتجه للنثر.. خلد اسمه بروايتيه الكبيرتين «الأرض» و«الشوارع الخلفية».. وباحث فريد فى التراث الذى غاص فيه وخرج منه بـ«محمد رسول الحريات»، ثم اتجه للمسرح الشعرى فأقام الدنيا ولم يقعدها بـ«الحسين ثائرا» و«الفتى مهران».وقال عنه نجيب محفوظ: «خرج علينا بقصيدته الرائعة (من أب مصرى إلى الرئيس ترومان).. ثم أدهشنا بروايته العظيمة (الأرض) التى جعلت منه رائدا للأدب العربى المعاصر».