تمر دول الربيع العربى بمرحلة من الضبابية بعد سقوط أنظمة الاستبداد.. ففى ليبيا، هناك أطراف مختلفة الرؤى وبعد قبلى وانتشار للسلاح، مما يؤدى إلى غموض المستقبل. وفى مصر، أدى ارتباك المسار الذى وضعه المجلس العسكرى وانقسام القوى السياسية منذ الاستفتاء ثم تنافسها السياسى المبكر إلى تعقد الموقف.
أما فى تونس، فيبدو الوضع أفضل نسبياً بسبب ظهور تحالفات مبكرة من فصائل أساسية توافقت على مسار الانتقال، وساعد حياد العسكر على هذا. واقع الأمر أن محاولات القوى السياسية بناء أنظمة ديمقراطية فى دول الربيع العربى تحتاج إلى ما هو أكثر من ثورات الشعوب بالميادين التى أسقطت أنظمة الاستبداد. فالجماهير لا تستطيع بمفردها إقامة أنظمة بديلة، وإسقاط الأنظمة القديمة يجب ألا يستتبعه مباشرة صراع سياسى وتنافس أيديولوجى بين الأطراف المختلفة كما نشهد اليوم.
إننا نحتاج إلى تأسيس كتلة تاريخية وطنية فى كل دولة، أى تكتل وطنى عابر للأيديولوجيات والأحزاب يضم الأطراف الرئيسية كافة.
وبغير هذا النوع من التحالفات الوطنية ستتعامل القوى الوطنية (فرادى) مع بقايا الأنظمة البائدة ومع من يقف وراءها من دوائر إقليمية وخارجية ليس من مصلحتها نهضة العرب.
حدثت هذه التحالفات الموسعة فى حالات انتقال ناجحة كالهند وماليزيا وبولندا وإسبانيا وغيرها، وفى دول عربية من قبلُ فى شكل حركات تحرر وطنى بمصر وسوريا والمغرب والكويت والجزائر وغيرها.
تقوم هذه الكتل التاريخية بدورين محوريين فى المراحل الانتقالية التأسيسية، الأول: تأسيس النظام الديمقراطى المنشود بخصائصه المتعارف عليها، وذلك من خلال التوافق على دستور ديمقراطى يمثل تعاقداً مجتمعاً بين القوى الوطنية الرئيسية.
الثانى: القيام بمهام الحكومة الوطنية الموسَّعة بعد تأسيس النظام الديمقراطى لفترة من الزمن أو خلال أول دورة انتخابية؛ حيث تتم خلالها معالجة القضايا المحورية فى كل بلد؛ ففى ليبيا هناك مسألة تجميع السلاح وبناء جيش وطنى ومعالجة المسألتين الأمنية والقبلية بما يحافظ على وحدة الأراضى الليبية، والحفاظ على ثوابت ثلاثة فيما يتصل بعلاقات ليبيا بالخارج: لا لأى وجود أجنبى من أى نوع، لا للتوقيع على أى اتفاقيات عسكرية طويلة الأجل مع الغرب لإعادة تأهيل الجيش أو الشرطة، ولا للاتفاق على تعاقدات نفطية طويلة الأجل مع الغرب قبل وجود برلمان منتخب انتخاباً حراً وموافقته على هذه التعاقدات. أما فى مصر فهناك معالجة العلاقات المدنية العسكرية، وهناك الملفان الأمنى والاقتصادى، وفى تونس هناك الملف الاقتصادى وملف الحركات الإسلامية السلفية.
إن المراحل التأسيسية لا تحتمل إثارة القضايا الخلافية بعد سقوط الأنظمة القديمة مباشرة، كما لا تحتمل التنافس بين برامج الأحزاب المختلفة، وتصور كل فريق أن برنامجه للنهضة هو الأفضل.
* أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية