رأفت الميهى.. جنون السينما و"فانتازيا" الفن المقاوم
رأفت الميهى.. الاسم وحده يكفى، لتتداعى لذهن القارئ عشرات الأعمال السينمائية المغايرة، ورغم ما جاد به تاريخ السينما المصرية من أسماء لامعة، إلا أن اسم رأفت الميهى فى أوساط الجمهور، ارتبط بغوصه فى عوالم «الفانتازيا»، والإبحار بأفكاره الفلسفية على قوارب من الكوميديا، وفى أوساط السينمائيين حصل على شهادات مبكرة، منذ بداياته فى الستينات من القرن الماضى، باعتباره واحداً من أهم كتاب السيناريو المصريين، رغم حداثة سنه وقتها، وهو ما جعله يقتحم الساحة السينمائية، بعد تخرجه ضمن الدفعات الأولى للمعهد العالى للسينما، ليستغرق ما يقرب من عقدين من الزمان، قبل أن يكشف عن موهبته الإخراجية، وينال شهادة أخرى تضعه ضمن المخرجين الأهم فى النصف الثانى من القرن العشرين.
تملكت السينما من رأفت الميهى، فمنحها هذه الذات المعذبة، بعوالم اختزنها بداخله، ولم يخرج منها إلا القليل، ورحل وما زالت أدراجه مغلقة على سيناريوهات لم يمهله الزمن، أو تمنحه الدولة التى وقفت كعائق أمام دعم مشروع فيلمه الأخير «سحر العشق»، مساحة يعيد من خلالها ما تفتقده ذائقة الجمهور المصرى من اختلاف، فرأفت الميهى مجنون السينما بلا منازع، الذى تعلم أصولها ليخالف قوالبها الجامدة، فهو الفتى الذى تمرد على دراسته للآداب، وتوجه للمعهد العالى للسينما، وتخرج فيه 1964 فى وقت كانت فيه الساحة السينمائية تلفظ كل ما يأتى من هذا الكيان الوليد، إلا ما رحم ربى، ممن عملوا فى السينما قبل دخول المعهد، فالتفضيل كان للخبرة العملية على الدراسة الأكاديمية، ورغم حداثته اقتحم الساحة ككاتب، وقدم العديد من السيناريوهات المهمة «غروب وشروق، جفت الأمطار، شىء فى صدرى، على من نطلق الرصاص.. وغيرها»، التى حجزت له مساحة داخل منظومة الإنتاج السينمائى المصرى.
المختلف فى رحلة رأفت الميهى مع السينما، أنه لم يلتزم بقانون اللعب فى المضمون، فهو كاتب السيناريو البارز، الذى حصل على فرصة العمل مع مخرجين متميزين أبرزهم كمال الشيخ، ولكنه أراد أن يقدم نموذجاً أكثر اختلافاً، لما تعارف عليه البعض بسينما المؤلف، ليتصدى لإخراج نصوصه السينمائية فى فترة الثمانينات، بـ«عيون لا تنام والأفوكاتو وسيداتى آنساتى والسادة الرجال وللحب قصة أخيرة»، ويبدأ فى غزو كوكب «الفانتازيا» غير المأهول بعناصر مصرية، وهو ما جعله بمثابة أول رائد فضاء مصرى يحلق فى مدار هذا الكوكب، بمركبة ليست بدائية ولكنها حديثة ومعاصرة، ومتجاوزة للاجتهادات غير المدروسة التى قدمت من قبل، واللافت أن «فانتازيا» رأفت الميهى لم تجنح للتغريب، ولكنها استلهمت أفكارها الجنونية من واقع المجتمع المصرى، وطرحت العديد من قضاياه المجتمعية فى مغامرات سينمائية متتابعة، لم يكن ليقدم على خوضها منتج لا يؤمن بجنون رأفت الميهى، وهو ما جعله يتصدى لإنتاج هذه الأعمال بنفسه، ليعيد للسينما ما منحته إياه، قبل أن تسلبه كل شىء فى النهاية. سينما رأفت الميهى، لعبت دور الفن المقاوم مع بداية تجاربه الإخراجية، فرأفت الميهى بدأ رحلته الإخراجية فى فترة الثمانينات، وهى الفترة التى توحشت فيها نوعية من أفلام السينما، تعارف عليها عدد من النقاد باستخدام مصطلح «سينما المقاولات»، ورغم تاريخ السينما المصرية العريق، فإن إنتاجها لم يحقق رقماً قياسياً من حيث عدد الأفلام المنتجة سنوياً، سوى فى فترة تسيد سينما المقاولات، التى واجهت مقاومة من مخرجى الواقعية الجديدة من جهة، وفانتازيا رأفت الميهى من جهة أخرى، رغم عدم انفصال الأخير عن أبناء جيله، إلا أنه تفرد بتحليقه خارج السرب، لترحل أفلام المقاولات مع انهيار أسطورة «الفيديو كاست»، وتراجع الطلب عربياً على هذه النوعية، وتبقى الأعمال التى قاومت هذا الانهيار الإبداعى، راسخة فى أذهان المصريين، ومن بينها أعمال رأفت الميهى، التى استمرت كتيار سينمائى مغاير حتى بدايات الألفية الجديدة.
ولكن فانتازيا رأفت الميهى، التى صمدت أمام أفلام المقاولات، تراجعت مع ارتفاع كلفة الإنتاج بالنسبة له، وسيطرة أفلام الكوميديا، التى صدرتها الكيانات الاحتكارية على الساحة الإنتاجية، كورقة رابحة فى شباك التذاكر، بغض النظر عن مستواها، فلم يقدم رأفت الميهى فى الألفية الجديدة، سوى فيلمه «عشان ربنا يحبك»، ولم يطلبه أى من منتجى هذه الحقبة للعمل بعدها، حتى تجربته التى حصلت على توصية بالإنتاج فى مشروع دعم وزارة الثقافة للسينما، عرقلتها بيروقراطية الموظفين، وعدم كفاية التمويل اللازم لإنتاج العمل، وتراجع شركات الإنتاج عن مساندته فى إنتاج الفيلم، دون أن تحرك وزارة الثقافة ساكناً، مع وضعها شروطاً تحول دون استقلالية المبدع، وهو ما جعل رأفت الميهى يكتفى خلال الـ15 عاماً الأخيرة بتقديم فيلم وحيد، إضافة لمسلسل «وكالة عطية»، الذى لم تختلف بنيته الدرامية، ولا ما يحمله من أفكار مختلفة عن مشروعه، ولم تكرر مدينة الإنتاج الإعلامى التجربة مرة أخرى. وكعاشق للسينما يتحول رأفت الميهى من مبدع إلى بستانى يرعى زهور الإبداع ويساعدها على النمو، بتأسيسه لأكاديمية رأفت الميهى للسينما، التى اتخذت من استوديو جلال العريق مقراً لها، ليمارس هذا الفنان دوراً آخر فى منظومة السينما، ويعمل على تفريخ مواهب بارزة للحقل السينمائى المعاصر، تخرجت فى هذه الأكاديمية التى حاضر فيها رأفت الميهى لسنوات، وأسهم فى تشبع كثير من مخرجى وكتاب ومونتيرى السينما المستقلة والروائية الطويلة، بروحه التى ستبقى ما بقيت شرائط السليلويد.