لى أصدقاء من دول قليلة السكان غير خليجية. لم أكن أحتمل أن أسمع أصدقائى هؤلاء يتحدثون عن الصعوبات الاقتصادية التى تواجه بلادهم، وكنت أقابلهم بتعليقات ساخرة من نوع أنه إذا تم فتح مدرسة واحدة فى بلدكم لتم استيعاب كل الأطفال، ولو تم فتح مصنع واحد لتم توظيف كل العاطلين. إنها بلاد المشروع الواحد التى تسمح ظروفها بأن يكون افتتاح مشروع واحد فيها كفيلاً بحل مشكلات كثيرة. إنها بلاد المشروع الواحد التى للأسف الشديد لا ننتمى لها.
مشكلات مصر كانت فى ذهنى وأنا أطلق هذه التعليقات الساخرة، فبلدنا ذو التسعين مليوناً، الذى تغلب عليه فئات العمر الشابة، ليس من بلاد المشروع الواحد. فكم من فرص العمل يمكن لمشروع واحد كبير توفيرها؟ عشرون أو ثلاثون ألفاً، رائع جداً، ولكن ماذا عن باقى السبعمائة ألف وظيفة جديدة المطلوب توفيرها سنوياً؟ وكم من العائدات يمكن لمشروع واحد أن يدرها؟ عشرة مليارات دولار مثلاً، ممتاز، إنه مبلغ مماثل تقريباً للمساعدات الكبيرة التى حصلنا عليها من دول شقيقة فى الخليج فى العام الماضى، ولكننا ما زلنا نحتاج إلى ما هو أكثر من هذا بكثير لتعويض فجوات الفقر والتنمية.
من حسن السياسة اللجوء لزيادة النفقات العامة لتنشيط اقتصاد يعانى من آثار سنوات الاضطراب السياسى. فالأموال الهائلة التى يتم ضخها فى الاقتصاد تنشط الإنفاق الخاص، وتدور معها عجلة الإنتاج استجابة للقدرة الشرائية الجديدة الداخلة إلى السوق. يمكن تحقيق هذا الهدف بزيادة الإعانات الاجتماعية والدعم ومرتبات موظفى الحكومة، لكن أثر مثل هذه الإجراءات ينتهى بسرعة، ويبقى الاقتصاد فى حاجة دائمة لضخ أموال جديدة فى حلقة جهنمية لا تنتهى. المشروعات الكبرى -على العكس من ذلك- هى الطريقة الملائمة لزيادة النفقات العامة بطريقة مفيدة تبقى آثارها فى الاقتصاد لفترات طويلة مقبلة. فقناة السويس ستولد عائدات تزيد سنوياً لعقود تالية. وشبكات الطرق الجديدة ستصبح مرتكزاً للتنمية الاقتصادية والتوسع العمرانى فى مناطق إضافية، والأراضى الزراعية المستصلحة ستواصل الإنتاج لسنين طويلة مقبلة.
مئات الآلاف من المصريين سيعملون فى هذه المشروعات، لكن التحدى الأكبر هو توفير فرص عمل للملايين الإضافية التى نزيدها كل عام، وهو ما لا تستطيع أى حكومة تحقيقه مهما بلغ جبروتها. وحدهم الناس يستطيعون توفير الملايين من فرص العمل لأنفسهم ولآخرين مثلهم إذا أتيحت لهم الظروف الملائمة التى تسمح بتأسيس المشروعات، والدخول إلى الأسواق والخروج منها بحرية ونظام، وحماية الملكية والحقوق، وتوفير الحماية من التعسف والفساد، وترسيخ متطلبات المنافسة العادلة، وتسهيل التمويل دون التساهل فيه، ولا أحد يستطيع توفير هذه الشروط غير الدولة.
المطلوب إذاً هو إطلاق طاقات المصريين للعمل المنتج عبر مجموعة كبيرة من الإجراءات التى توفر الشروط الضرورية لتشجيع المترددين على تأسيس المشروعات، ولتحويل الشباب من باحثين عن الوظائف إلى خالقين لها، فلو أن عشرة بالمائة فقط من الشباب نجحوا فى تأسيس مشروعات صغيرة يوفر كل منها فرصة عمل لصاحب المشروع ولعشرة آخرين من الشباب لتم حل مشكلة البطالة بطريقة منتجة وفعالة، وليس عن طريق الوظائف الكاذبة والبطالة المقنعة فى دواوين الحكومة.
سنعرف أننا على الطريق الصحيح عندما نجد فى الأسواق ولاعات صناعة مصرية تنافس الولاعات الصينية الرخيصة، وعندما نعرف أن هذه الولاعات المصرية قد تم إنتاجها فى مصنع يعمل به عشرات قليلة من العمال تم تأسيسه فى المنطقة الصناعية بأسيوط. سنعرف أننا على الطريق الصحيح عندما نرتدى وأطفالنا عندما نذهب إلى الشواطئ فى الصيف صنادل وشباشب بلاستيكية تقلد الماركات العالمية تم إنتاجها فى مصنع صغير فى المنطقة الصناعية فى سوهاج. سنعرف أننا على الطريق الصحيح عندما نجد فى الأسواق لعب أطفال مصرية الصنع تم إنتاجها فى مصانع صغيرة متفرقة فى نواحٍ مختلفة من البلاد. لا أرى أى صعوبة فى إنتاج المكعبات البلاستيكية التى يقوم الأطفال بتركيبها ليبنوا بها بيوتاً ومدناً. لدينا شبان برعوا فى إنتاج روبوتات تقوم بمهام صناعية وعلمية معقدة، ومن غير المتصور أن يعجز هؤلاء عن تصميم وإنتاج لعب أطفال يتم توجيهها عن بعد. لدينا الآلاف من خريجى كليات الفنون الذين يمكنهم توفير تصميمات رائعة لمثل هذه الألعاب. هل من الصعب على مستثمر شاب إنتاج نظارات شمسية بلاستيكية رخيصة يتم عرضها على الأرصفة إلى جانب مثيلتها الصينية بسعر منافس؟ كم من أغطية وجرابات التليفونات المحمولة يتم بيعها فى مصر سنوياً؟ وهل يستطيع مستثمرون مصريون شبان بإمكانات محدودة صناعة بعض منها فى مصر؟
أنا أتحدث عن أشياء صغيرة بسيطة، وما يسرى عليها يسرى أيضاً على المنتجات الأكثر تعقيداً وتقدماً، فالمهم هو توفير الظروف الملائمة، وعندها سنشهد إبداعات وابتكارات لم نكن لنحلم بها.
المطلوب إذاً هو دعم العشرة فى المائة من الشباب الذين لديهم من المهارة والجدية والانضباط ما يسمح لهم بأن يصبحوا رواداً للأعمال، يخلقون الوظائف لأنفسهم ولآخرين مثلهم. لدى ثقة كاملة فى أن هناك كثيراً من الشباب قادرين على الاستفادة من الفرصة إذا أتيحت لهم، ومهما تحدثنا عن مشكلات التعليم والشباب والثقافة، فليس من قبيل التفاؤل الزائد افتراض وجود عشرة بالمائة من الشباب القادرين على القيام بذلك. نحن بلد كبير جداً، ونسبة العشرة بالمائة من الشباب على تواضعها إذا حولناها إلى أرقام مطلقة تعنى الملايين من الشباب، وهى طاقة كبيرة قادرة على إحداث نقلة كبيرة فى التنمية ومحاربة الفقر إذا نجحنا فى إطلاقها، فما الذى ينقصنا لتحقيق ذلك؟