فى ظل إلحاح اللحظة أكتب مرة أخرى عن أزمة مجتمع وليس مهنة فحسب، فالخَطب جلل، والنصيحة واجبة، وسكاكين الغباء مزَّقت الواقع وفرضت التخلف.. فإليكم ما أرى: إذا كنت من المارقين الذين يتابعون الأخبار عبر كافة وسائل الإعلام، بما فيها الغربية، فإنك وأنت ترتكب هذا الجرم فى هذه الأيام، تسأل نفسك دائماً: لماذا يتحرك العالم من حولنا فى حين نُصر نحن على ألا نبارح المكان؟! «هافينجتون بوست» تطلق نسختها العربية من خلال شخص «وضاح خنفر»، المدير السابق لـ«الجزيرة»، لن أتدخل بتفسيرات أو تحليل، ولن أنعت «خنفر» بما يليق به، بدءاً من التسييس حتى الانحراف المهنى، لكن الوسيلة الإعلامية الغربية المهمة قررت أن تصل إلينا، فى حين أنهم قرروا فى الداخل أن يجففوا منابع المعرفة برغبة قوية تماثل شهوة شاب فى العشرين، احبسوهم فى غرف هواء مدينة الإنتاج الإعلامى «ويا دار ما دخلك شر»، ولسان الحال: «يكفيكم منابر المخبرين»، فهى تحول دون مفردات الطابور الخامس وشفرات الجواسيس..!! الحصانة.. الحصانة فلتبتغوا إليها سبيلاً حتى لا يفسد العقل أو ينحرف المزاج أو تتشوش الصورة.. هكذا يريدون لنا.
إذن فالجميع يهرول إلى التأثير فينا بل وتبنى رؤاه ومعالجاته لواقعنا، باستثناء جهابذة الداخل الذين يرون أن النوافذ المشرعة خطأ، وأوراق الصحف جريمة، والكتابة خطيئة، والتفكير رجس من عمل الشيطان، وإذا كان الإعلام يعكس علاقة الرضا بين الحاكم والمحكوم فعليكم لكى تنالوا رضا السلطة أن تنادوا بصوت عالٍ: إحنا بنموت فى التقييد وبنكره الحرية، ما يحدث فى مصر حالياً دليل انحطاط، كتب عنه أستاذنا أحمد بهاء الدين فى كتابه «شرعية السلطة فى العالم العربى»، فقال: لكى نذهب إلى الأمام علينا أن نحقق ثلاثة أشياء، أولها حرية الرأى المقرونة بالديمقراطية، تليها العقلانية، ثم أخيراً الشرعية، وكأنه يتحدث بلسان اليوم، رغم مرور عقود على كلماته، فما ذكره أولاً يرى أنه ليس نوعاً من الترف الشكلى؛ لأنها صفات وقيم وليست أشياء مادية، فهى فى الواقع صارت ماسة بل ومتفاقمة (أى فى الحاجة إليها)، فالقوة المادية لا يمكن أن تأتى إلا فى أعقاب قوة معنوية، وكل مجتمع ناهض لم يحقق تقدمه المادى إلا بعد أن استتبت لديه قيم تسمح بقيام هذا التقدم المادى.
الحرية عندهم هى حرية «أن تفعل ما يرونه وليس أن تفعل ما تراه»، ولذلك فإن شروطهم لإدارة الواقع لن تفلح ولن تأتى بالثمار، فآلات الدعاية، حتى وإن حضرت، لا تبنى ثقة أو تخلق تأييداً دون أن تقنع الجماهير بأنها أمام حقائق وليس خداعاً. التربة ليست صالحة لزراعة الأمل، رغم الإصرار عليه، لأنه انتقص برضا القصور عن انتهاك كل شىء، بما فيه قيمة العدل والمساواة، وأول الشرعية مساواة، ولهذا فنقول لأولئك الذين ينتظرهم «التوك توك» هناك «زنود» فى الطريق، وقوانين غير مكتوبة تحكم المستقبل، ومراسيم مملوكية لن يتم تجاوزها، ولهذا فلتقتلوا هذا الإعلام الذى يذكركم بأنكم «عبيد الإحسان»، ويكفيكم الرضا بأنكم تحت هذه السماء، أما تلك الفرص فاسألوا هذا الإعلام وتلك الصحافة عنها، فهى لا تناسب السادة المنحدرين من أصلاب ممتدة لا تنغرس سوى جذوعها فى تلك الأرض، أما أنتم فلكم «التوتوك»..!
«هافينجتون بوست» وغيرها سواء إن التزمت المعايير أو المهنية، فهى وسيلة مؤثرة ذائعة الصيت سترانا بعين الغرب، وسيكون هدفها «نحن»، فهل «نحن» مستعدون لـ«هؤلاء»؟ وهل ستتمكن فرقة «إحنا بتوعك» من صد تأثيرها؟
وعلى سبيل التذكرة: من أين تستقى مصر أخبارها عن مشاركة قواتها فى التحالف ضد الحوثيين؟ خلّى الإجابة فى سرك، وغداً ستأتى مائة «هافينجتون بوست»، فى حين ستخلو مصر من الكلام، سيبقى للجميع الصمت، وساعتها ستكون القبور أولى بهم..!