أبداً.. "مفيش رجوع"
بعدما أفضوا ما فى مرادهم من عمل شاق استمر خلال عام وسط الصحراء القفر، حمل كل منهم فأسه ومعه حلمه، حلم تشكل داخله طوال ليالى البرد القارس على شط القناة، هنا رسم مستقبله الشخصى، بعدما انتهى من حلم وطن بأكمله فى الانتهاء من مشروع قومى قد يخرج مصر من ضائقتها الاقتصادية، خطط بيتاً ومنزلاً وأرضاً ومستقبلاً لأولاده على تلك الصحراء، على مبعدة من شط القناة الجديدة التى حفرها بساعده.
عمال حفر القناة الجديدة، كانت لهم خطط أخرى بعدما انتهوا من شقها، رفضوا أن تنقطع علاقتهم بتلك القطعة من أرض سيناء، رفضوا العودة إلى منازلهم وقراهم فى الوادى، مخططين للعيش داخل قرى الإسماعيلية على طول شرق القناة، والمدن الجديدة التى تظهر على محور قناة السويس، مؤمنين أن لهم نصيباً من ذلك المشروع، الذى شاركوا فى بنائه طوال ليالٍ كانت قاسية عليهم، وأيام طوال واصلوا فيها الليل بالنهار دون كلل.
جلس «كامل فوئى» يدخن النرجيلة بجلبابه الرمادى المثقل بالأتربة من فرط العمل طوال النهار فى نقل الرمال بعربته من موقف حفر القناة، إلى موقع توسعة الطريق الواصل بين مدن شرق القناة، بعدما انتهى من مهمته فى حفر قناة السويس، لكن الحكاية لم تنته بالنسبة له عند ذلك الحد، فكان الأمر أكبر من مجرد مشروع شارك فيه: «ده كان رزق كبير، ماشفتش خير طول عمرى زى الخير اللى شفته فى السنة اللى اشتغلت فيها فى المشروع».
«أحلى أيام العمر»، بتلك الجملة يصف «فوئى» العام الذى مر عليه خلال اشتراكه فى حفر القناة الجديدة، بل مع بداية مشاريع محور القناة.. يحلم الرجل أن يكون جزءاً منها: «طول ما فى هنا شغل أنا موجود وشغال، واحنا معاهم حتى لو هننحت الصخر بأيدينا».
الرجل كان يعمل قبل بداية المشروع، سائق «لودر» فى بعض المشروعات بمنطقة القنطرة شرق، باعه واشترى العربة النقل الضخمة، ليكون جزءاً من المشروع الذى لم يكن يقبل بذلك اللودر القديم للعمل بالمشروع الضخم الذى نمَّى داخله حلم البقاء على تلك البقعة من الأرض والعيش فيها، ونقل أسرته وبيع أرضه فى محافظة «الشرقية» وشراء قطعة من تلك الصحراء لتعميرها وزراعتها، ليكون جزءاً من الحياة الجديدة التى تدب فى تلك الرمال والصحراء المترامية على الضفة الشرقية من القناة.
توجه الرجل الخمسينى إلى قرية الأبطال المتاخمة للمشروع، ورسم حلمه هناك، سأل عن سعر متر الأرض، وحدد الأرض التى سيبنى عليها منزله، والمكان الصالح للزراعة هناك: «الفلاح ماينفعش يعيش من غير أرض يزرعها»، بل خطط لنقل جزء من تربة أرضه فى محافظته إلى تلك الأرض التى سيزرعها، ليستبدل تربتها الرملية بتلك السوداء التى تستقر على شط النيل: «إحنا جايين نزرع ونعمل وهنخضر الصحراء».
أسبوع وراء أسبوع، ومع كل زيارة إلى بلدته ينقل جزءاً من تربة أرضه الطينية إلى هناك على عربته، إلى أرضه الجديدة لتكون صالحة للزراعة، يخلط التربة الصحراء الجرداء بتلك الطينية السوداء، يقلبها ويحددها ليتشكل حلمه أمامه.
على مقهى تجمع عمال حفر القناة، فى استراحة محارب، يجلس «عبده ماهر» يتناول بعضاً من الطعام، ويقول إنه بدأ فى عمل جديد مجاور للحفر، ولن يعود إلى قريته بالدقهلية، لكنه سيستمر طالما استمر العمل فى المشروع والمشاريع القائمة عليه، ويقول: «عايش مع قرايبى اللى عايشين فى قرية الأبطال، وبافكر أكمل معاهم وأجيب المدام والأولاد ونشترى بيت جنبهم».[FirstQuote]
يتوقع الرجل الأربعينى أنه إذا خرج من منطقة محور قناة السويس فلن يعود إليها مرة أخرى وربما لن يستطيع أن يشترى متر أرض واحداً بعد عام: «المنطقة هنا هتتحول تحول كبير، ويمكن مانقدرش نخش برجلينا المكان هنا، الدنيا هتتغير والدنيا هتغلى والواحد عايز يضمن لنفسه مكان فى وسط الخير إلى هيعم هنا».
أسرة «عبده ماهر» التى تعيش بقرية الأبطال منذ عام 1990، دوماً ما كانت تدعوه إلى العيش معهم فى قرية الأبطال والاستقرار هناك مع كل زيارة: «كنت باقولهم أعيش إزاى هنا، دى خرابة»، لكن مع عمله خلال فترة حفر القناة معهم، تبدل المكان عن ذى قبل، بل يتوقع أن يتطور المكان ويتبدل بشكل أكبر، وهو ما زاد من رغبته فى أن يكون ضمن ذلك التغيير الكبير.
كان الرجل يتوقع انتهاء المشروع فى عام، ويقول: «كان أقل موقع فيه 40 عربية و20 لودر»، فالمعدات استطاعت أن تنهى المشروع فى وقت قياسى، بفضل الالتزام المادى من قبل الجيش والهيئة الهندسية، التى رفعت من همة العمال: «الناس تخلص شغل الأربع، نستلم فلوسنا الخميس الصبح»، ويستطرد: «أول مرة من ساعة ما اشتغلت بالعربية أشوف التزام بالطريقة دى».
«الجو بقى أمان»، تلك الجملة يعتبرها واحدة من الأسباب التى دفعته إلى التفكير فى الاستقرار والعيش داخل منطقة شرق القناة، ويقول: «أول ما جينا كنا بنخاف نشيل الفلوس ونمشى بيها»، لكن مع الوقت، الوضع الأمنى بدأ فى التحسن، بجانب مشاريع التنمية والتطوير فى تلك القرى المتاخمة للمشروع: «الأمن شد حيله ودى حاجة مهمة جداً بالنسبة لنا لأى مكان تقرر تعيش فيه».
«ماهر» عاش لمدة عام داخل الخيم، وسط العقارب والثعابين السامة، يعمل على نقل الحصى من السويس إلى منطقة شرق القناة، لاستخدامه فى بعض المشروعات، كرصف الطرق وبناء المجمعات السكنية، لكن أكثر الصعوبات التى يجدها فى عمله الجديد هى عبور المعديات.
على شط قناة السويس الجديدة، يستقر الحاج «محمد البعلى» داخل خيمة بالقرب من معدية «الفردان»، بعدما تابع مرور أول ثلاث سفن كبرى للقناة التى حفرها مع العمال: «مش مصدق أن الجبال اللى كنا عايشين فيها سنة كاملة بقت ميه خلاص وبتعدى فيها سفن عملاقة زى اللى عدت من شوية».
يستمر عمل «البعلى» فى اللمسات الأخيرة للقناة الجديدة، فيقوم الرجل وبعض من رجاله بـ«تدبيش» شط القناة الجديدة، حيث يشكلون شاطئاً متيناً باستخدام الصخور والأحجار حتى لا تنجرف الرمال إلى داخل القناة ويضيق المجرى الملاحى.
«باشتغل بنص قوتى»، يقول «الحاج محمد» الذى عمل فى عدد من المواقع المتفرقة خلال عملية الحفر، مشيراً إلى أن الكثير من عماله كانوا يرفضون العودة، وكأن عملية اختيار عدد من الرجال للبقاء لاستكمال العمل صعبة للغاية فى ظل رغبة الجميع فى استكمال العمل: «كان فاتحة خير على الكل، ومحدش كان عايز يروّح بيته، حد يكره الخير».
لم يكن عماله وحدهم يرفضون العودة، بل «البعلى» هو الآخر، لا يرغب فى العودة للعيش مجدداً فى الضفة الأخرى من القناة، فى قرية «البعالوة» محافظة الإسماعيلية، بل إنه بعد المشروع قرر العبور بأهل بيته شط القناة والعيش فى المدن المتاخمة لها، والتى يجد فيها المستقبل له ولأولاده، وليس وحده فقط، بل كذلك لعدد من عماله الذين هموا بشراء بعض من الأراضى فى قرية الأبطال وقرية التقدم تمهيداً لبناء منزل صغير عليها لأسرتهم.[SecondQuote]
يخرج الرجل الأربعينى من خيمته، يترجل على شط المجرى الملاحى، يشير إلى الصخور المتراصة على الشط، وإلى جواره عدد من المضخات التى تسحب المياه لتسهيل عملية التدبيش فى ظل وجود ساتر رملى حول كل جزء يعملون فيه على رص الصخور بالتساوى، وعلى الجانب الآخر تظهر جبال من الرمال التى خرجت من عملية حفر القناة، تباب وجبال كبيرة من الرمال، وداخلها بحيرات عميقة من المياه تخرج من عملية التكريك.
حول موقد نارى، وضع عليه براداً من الشاى، على الطريقة البدوية، يلتف حوله عدد من العمال المستمرين فى العمل على أطراف القناة الجديدة، يجلس «رمضان سعد»، خمسينى العمر، اشتعل الشيب فى رأسه، يتمنى حفر قناة جديدة لتعود «الأيام الحلوة»، ويشير إلى أن العمل فى المشروع كان «فاتحة خير»، بل يقول: «ولا يوم من أيام الحفر»، ويراهن على استمرار المشروعات حول القناة، التى لا يصدق أن تلك الجبال وتلك الصحراء القفر تحولت إلى قناة تجرى فيها المياه وتسير فيها السفن.
بكل زهو وابتسامة ارتسمت على وجهه الأسمر يقول: «إحنا بنبنى للأجيال الجاية، زى ما بنوا أجدادنا الأهرامات وحفروا القناة القديمة، إحنا كمان بنبى للأجيال الجاية»، يجد فى نفسه ورجاله من عمال الحفر الحق فى الفخر بما أنجزوه، يجد فيما أنجزوه شيئاً يحكيه لأولاده: «ابنى فى المدرسة بيقول لزميله أبويا راح يحفر القناة الجديدة، وده عندى بالدنيا». ينتظر «سعد» العمل فى مشروع آخر ضمن مشروعات القناة ليقوم بالخطوة المنتظرة بشراء منزله ونقل أسرته إلى الشط الشرقى من القناة: «خلاص بقى ساعتها لازم نبنى لينا بيت»، فيقضى الرجل أسبوعاً كاملاً داخل الحفر ويرحل إلى بلدته فى إحدى قرى محافظة الإسماعيلية ليومين: «نجيب الأولاد والعيال ومش هنلاقى أرض نبنى فيها لأولادنا أحسن من هنا».