فى دراسة للدكتور نصر حامد أبوزيد حول الصوفية يقول: تمثل التجربة الصوفية فى جوهرها محاولة لتجاوز حدود التجربة الدينية العادية، تلك التى تقنع بالعادى والمألوف من مظاهر التصديق والإيمان، وتقتصر على مجرد الوفاء بالتكاليف الشرعية والامتناع عن المحرمات الدينية، أو ما يسمى الوفاء بمتطلبات الشريعة والوقوف عند حدودها ورسومها، يطمح الصوفى إلى تجاوز حدود الإيمان للدخول فى تخوم الإحسان، الذى شرحه جبريل للنبى حين ظهر له فى صورة أعرابى وأجاب عن أسئلته له فى حضور بعض الصحابة، سأله النبى عن الإيمان فأجاب: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله، وأن تؤمن باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وحين سأله النبى عن الإحسان أجاب جبريل: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. يسعى الصوفى إلى التواصل تواصلاً مباشراً مع الحق سبحانه، ويطمح إلى عبادة المعاينة التى أشار إليها جبريل، من هنا نفهم أقوال شهيدة العشق الإلهى رابعة العدوية التى ترى فى العبادة التى مبناها الخوف من العقاب والطمع فى الثواب، سلوكاً يماثل سلوك عبدالسوء، الذى إذا خاف أطاع وإذا أمن عصى، وأما عبادتها هى فمبناها على الحب الذى غايته الوصول إلى رضا المحبوب حتى يكشف للمحب الحُجُب التى تحول دونه ودون رؤية وجه المحبوب، فإذا انكشفت الحُجُب تحققت الرؤية:
أحبك حبين حب الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذى هو حب الهوى ... فشغلى بذكرك عمن سواكا
وأما الذى أنت أهل له ... فكشفك لى الحُجْبَ حتى أراكا
ويمكن لنا بالمثل أن نفهم ما ورد على لسان الحسين بن منصور الحلاج من شطحات، أساء فهمها وتأويلها فقهاء السلطة فأهدروا دمه، وهى أقوال مبناها العشق الذى تفنى فيه (إنيّة) العاشق فى ذات المحبوب، فلا تبقى إلا ذات واحدة:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن رَوْحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنى أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
وتجربة «حى بن يقظان» التى قصها أبوبكر ابن الطفيل فى القصة الفلسفية المشهورة تقدم شاهداً فلسفياً على ما يمكن أن ينشأ من تعارض بين التجربة الدينية الصوفية ومثيلتها العادية، فقد تقابل «حى» ذات يوم فى جزيرته التى نشأ فيها وحيداً والتى لم يعرف فيها من الأحياء سوى الحيوانات بكائن يشبهه كل الشبه، هو «أسال» الذى كان قد هجر الجزيرة التى كان يعيش فيها، لأن أهلها أنكروا عليه ما وصل إليه من الحقائق التى انكشفت له فى خلوته الصوفية، أثبت لقاء «حى» الذى لم يكن يعرف من الحقائق إلا ما توصل إليه من خلال تجربته العقلية والروحية الخاصة و«أسال» الذى انبنت تجربته الصوفية على فهم حقائق الشريعة المنزلة أن الحقيقة تطابق الشريعة إذا فُهمت هذه الأخيرة فهماً روحياً عميقاً، كما فهمها «أسال»، قرر «حى» أن يصحب «أسال» إلى الجزيرة التى سبق للأخير أن هجرها خوفاً من اضطهاد أهلها له، وذلك من أجل أن يدعوهم إلى الإيمان بالحقائق التى توصلا إليها كلاهما، لكن أهل الجزيرة كادوا أن يبطشوا بـ«أسال» وضيفه «حى»، فعادا إلى إلى جزيرة «حى» من جديد، وقد أدرك الأخير الحكمة من تنزيل الشريعة بصيغة تجمع بين «الظاهر» و«الباطن» فليس كل الناس بقادرين على تقبل الحقائق.
يبدو التعارض الذى سبقت الإشارة إليه بين التجربة الصوفية والتجربة الدينية العادية تعارضاً على مستوى الفهم والتفسير ليس إلا، لكنه مع ذلك أفضى إلى مآس دامية منها ما حدث من صلب الحلاج، ولم يتوقف هجوم الفقهاء على المتصوفة إلى حد وصفهم بالردة والكفر حتى عصرنا هذا، وبسبب هذا التعارض فى الفهم والتأويل بين التجربتين الدينيتين من جهة، وبسبب العنف المادى واللغوى الذى مارسته التجربة الدينية العادية والفقهية بصفة خاصة من جهة أخرى، كان على المتصوفة أن ينتجوا لغتهم الخاصة بهم، والتى يمكن أن تحميهم من بعض هذا العنف، من هنا منشأ اهتمام المتصوفة باللغة، فاستعاضوا عن اللغة العادية بلغة الرمز والإشارة، سواء فى تفسيرهم للقرآن الكريم أو فى تعبيراتهم عن مواجدهم وتجاربهم الصوفية ومكاشفاتهم الروحية فى أحوالهم ومقاماتهم، وهنا يميز المتصوفة بين «الإشارة» و«العبارة»، حيث الإشارة مجرد إيحاء بالمعنى دون تعيين وتحديد، ومن شأن هذا الإيحاء أن يجعل «المعنى» أفقاً منفتحاً دائماً، أما العبارة فهى تحديد للمعنى يجعله مغلقاً ونهائياً الأمر الذى يتعارض مع حقيقة الكلام الإلهى الذى تتعدد مستويات الدلالة فيه تعدداً لا نهائياً.