بنفس هذا العنوان كتبت مقالاً فى مارس 2011، وحددت هذه الانفلاتات بأنها انفلات أمنى، وانفلات إعلامى، وانفلات أخلاقى.
والآن.. وبعد مرور 4 سنوات ونصف السنة على هذا المقال، ومع مراجعة لأحداث هذه السنوات العجاف، أجد أننا فقط نتعافى تدريجياً من الانفلات الأمنى، ولم نصل فيه للحد الذى يجعلنا نقول إننا أصبحنا آمنين فى بلدنا. فقد زادت حدة الإرهاب، ولكن المؤكد أن هناك إصراراً واضحاً من القيادة فى ملاحقته ودحره. ولكن أى مراقب منصف سوف يلمس تحسناً كبيراً إذا ما قارن الأوضاع الأمنية الحالية بما كانت عليه منذ عامين فقط.
ولكن يظل الانفلات الإعلامى والأخلاقى لم يتحرك فيهما ساكن.. فالانفلات الإعلامى فى حالة تزايد، والاعتماد فى غالبية البرامج على الإثارة والانفعال ولفت الأنظار واستضافة شخصيات مثيرة للجدل، والمذيع هو صاحب الكلمة العليا فى البرنامج وليس الضيف، ورغم أن الإعلام كان يحتل بنداً كاملاً من بيان 3 يوليو 2013 الذى ألقاه الفريق أول عبدالفتاح السيسى، وزير الدفاع والإنتاج الحربى آنذاك، بعد اتفاق مع كل القوى الوطنية، ورغم أنه وجه أكثر من مرة لضرورة وضع ميثاق شرف إعلامى، فإن المتابع يشعر بأن هناك خطوة تقدم فى هذا الملف يعقبها تراجع للخلف عدة خطوات. وهكذا يظل الإعلام هو الملف الذى يشهد انفلاتاً متزايداً، وحتى لا يفهم كلامى خطأ.. فأنا لا أهدف إلى إعلام أحادى يمجد الحاكم فقط، ولا أهدف إلى إعلام هادم لكل شىء.. ولكننى فقط أريد إعلاماً محترماً جاداً مفيداً وموضوعياً يشكل إضافة للوعى العام المصرى. وقد توقفت كثيراً عند كلام مسئول قضائى كبير منذ أيام تعليقاً على تعدد قرارات حظر النشر، بأن الإعلام أصبح يشكل خطراً على سير القضايا المنظورة.. وهو محق تماماً، فالمذيع تحول إلى قاضٍ يتناول القضايا من وجهة نظره رغم تداولها فى القضاء.. وما كنا نعرفه ونحفظه عن ظهر قلب أن القضايا المتداولة فى المحاكم ليست محلاً للتعليق حتى لا نؤثر بالرأى العام على قرار القاضى، وأن الأحكام التى تصدر هى عنوان الحقيقة ويجب ألا نعلق عليها طالما صدرت حتى لا يشك الناس فى قضائهم. ولكن الواضح أن هذا الأمر لم يعد مطبقاً بأى حال، فما إن تحدث حادثة حتى يتبارى المتبارون فى الإعلام والمعروفون بالاسم فى فرض وجهات نظرهم على الرأى العام، وهو أمر لا يمكن أن يحدث فى أى دول فى العالم.. وما حدث خلال الأسابيع الماضية فى حادثة «طالبة الصفر» كان فضيحة بكل المقاييس، حتى إن رئيس الحكومة نفسه تأثر بالضغط الإعلامى وتفاعل مع الطالبة واستقبلها، وكان هذا من وجهة نظرى خطأ رسمياً مبنياً على خطأ إعلامى فادح.
إذن فلا يزال الإعلام فى حاجة للضبط حتى لا يضر أكثر مما ينفع.. ومن الواجب على العاملين بالحقل الإعلامى أن يدركوا أن الناس انصرفت عن متابعة ما يقولون بعد ما فطنوا على مدى سنوات أن الأمور فى الإعلام تسير بشكل شخصى وليس بشكل منهجى وموضوعى.
أما الانفلات الثالث، وهو الأصعب من وجهة نظرى، فهو الانفلات الأخلاقى والناتج عن منظومة تعليمية واجتماعية اختلت على مدى عقود، حيث تباطأت حكومات ما قبل يناير 2011 عن التفكير والتخطيط العلمى لحل مشكلة إسكان الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والتى حلت مشكلتها بعيداً عن الدولة تماماً بإنشاء عشوائيات سرطانية لاستيعاب الزيادة السكانية، وسكنها الملايين خلال سنوات قليلة، ولم تكن الحكومات تلتفت لهذه المستعمرات العشوائية إلا فى أوقات الانتخابات؛ فتقوم بتوصيل الخدمات إليها رغبة فى كسب أصوات الناخبين بها، وتكسبهم شرعية حتى أصبحت العشوائيات مجتمعات منفصلة عن المجتمع، لها قيمها الخاصة بها، والتى تتناقض مع قيم مجتمعات عمرانية أخرى كانت الدولة تهتم بها، وساهم على إحداث هذا الشرخ المجتمعى نظام تعليمى خرب، فيه تعليم عام لا يعلّم شيئاً، وتعليم تجريبى، وتعليم خاص، وتعليم لغات، وتعليم دولى، وانقسم المجتمع كل حسب طبقته فى هذه النظم، التى أصبح من الصعب توحيد القيم بها، فسادت عدة نظم أخلاقية وطبقية مزقت المجتمع، وظهرت فى صورة لا يمكن تجاهلها فى أى دراسة اجتماعية عن المجتمع المصرى الذى كان يتميز بمنظومة أخلاقية وقيمية واحدة. وإصلاح هذا الانفلات الأخلاقى الذى ساهم فيه الإعلام والثقافة بنسبة لا بأس بها يحتاج سنوات وسنوات، ويحتاج لتخطيط جيد فى التعليم والإسكان والأوقاف والإعلام والثقافة، يحتاج جهوداً جماعية تضع خطة محكمة تسرى على الأقل لمدة 18 عاماً حتى نبدأ فى تخريج أجيال على نظام أساسى واحد لمنظومة القيم والأخلاق التى تعد أساساً للأمن القومى لأى دولة.
نحن نسير ببطء.. والتدهور أسرع من خطانا بكثير. ولو كان الأمر بيدى لحولت هذه الأمور لبرنامج عمل للحكومة الجديدة فوراً. فالأمر لم يعد يحتمل تأجيلاً.