- كتاب الوصايا لمؤلفه: محيى الدين بن العربى الإمام الأكبر، سلطان العارفين، إمام المحققين رحمه الله تعالى، هو أحد أبواب الكتاب الكبير الموسوعة للشيخ وهو (الفتوحات المكية) بل هو فصل من فصوله أُخذ منه وطُبع منفرداً عنه، لأنه اهتم بالوصية الدقيقة التربوية التى تأخذ بيد السالك المريد إلى طريق أهل الله تعالى، بل وإلى صدق العبودية والإخلاص فيها مع الله تعالى، إنها نفحات قدسية تجلى الله بها على الإمام الأكبر تقارب الستين والخمسمائة وصية، مشتملة على كثير من العبر والحكم والمواعظ التربوية، ومن هذه الوصايا:
- لا تحقر شيئاً من عملك فإن الله ما احتقره حين خلقه وأوجبه، فإنه ما كلف بالأمر إلا وله بذلك اعتناء وعناية حتى كلفك به مع كونك فى المرتبة أعظم عنده، فإنك محل لوجود ما كلفك به.
- لا شىء أحق بطول السجن من اللسان، وقد خلقه الله خلف الشفتين والأسنان ومع هذا يفتح الأبواب ويكثر الفضول.
- لا ترد سائلاً ولو بكلمة طيبة، وقابله طلق الوجه مسروراً به، وكان الحسن رضى الله عنه إذا سأله السائل سارع إليه بالعطاء ويقول أهلاً وسهلاً تحمل زادى إلى الآخرة، وإياك وظلم العباد فإن الظلم ظلمات يوم القيامة وظلم العباد أن تمنع حقوقهم التى أوجب الله عليك أداءها، ولا تنهر السائل مطلقاً فإن الجائع يطلب الطعام، والضال يطلب الهداية.
- عليك بمراقبة الله فيما أخذ منك وفيما أعطاك فإنه ما أخذ منك إلا لتصبر فيحبك فإنه يحب الصابرين، وإذا أحبك عاملك معاملة المحب لمحبوبه وما من شىء يزول عنك إلا وله عوض سوى الله: لكل شىء إذا فارقته عوض / وليس لله إن فارقت من عوض، وكذلك إذا أعطاك فإن من جملة ما أعطاك الصبر على ما أخذه منك، فأعطاك الشكر وهو يحب الشاكرين، وقال موسى يا رب ما حق الشكر؟ قال إذا رأيت النعمة منى فذلك حق الشكر، وعليك أداء الأوجب من حق الله وهو ألا تشرك به شيئاً من الشرك الخفى الذى هو الاعتماد على الأسباب الموضوعة والركون إليها بالقلب، فإن ذلك من أعظم رزية دينية فى المؤمن وهو المراد بقوله من يوسف آية رقم 106: (وما يؤمن أكثرهم إلا وهم مشركون).
- دين الله هو الذى يؤلف بين عباده ويبين ما فيه سعادتهم وهو يحتاج إلى علم كبير وعقل وفكر صحيح وروية حسنة واعتدال مزاج فلا يصلح لها كل واحد، وعليك بالورع فى المنطق كما تتورع فى المأكل والمشرب والورع عبارة عن اجتناب الحرام والشبهات، وإياك والعجلة إلا فيما أمر به.
- عليك بصلة الرحم فإنها شجنة من الرحمن وبها وقع النسب بيننا وبين الله فمن وصل رحمه وصله الله ومن قطعه قطعه الله، كن فقيراً من الله كما أنت فقير إليه. ومعنى فقرك من الله ألا تشم منك رائحة من روائح الربوبية بل العبودية المحضة كما أنه ليس فى جناب الحق شىء من العبودية ويستحيل ذلك عليه فهو رب محض فكن أنت عبداً محضاً، وإياك والبطنة فإنها تذهب بالفطنة فكل لتعيش وعش لتطيع ربك ولا تعش لتأكل ولا تأكل لتسمن، وعامل كل من تصحبه أو يصحبك بما تعطيه رتبته فعامل الله بالوفاء لما عاهدته عليه من الإقرار بالربوبية وعامل الرسل بالاقتداء والملائكة بالطهارة.
- قال أحد الحكماء: يا ولدى سد الباب واقطع الأسباب وجالس الوهاب يكلك من غير حجاب، وسأل بعضهم: أى الأصدقاء أحب إليك؟ قال: الذى يغفر زلتى ويسد خلتى ويقبل علتى، من أحسن سريرته أحسن الله علانيته ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه ومن أصلح لما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس.
- هذا ويذكر أن الإمام ابن عربى بدأ مسيرته الروحية، وانغمس فى أنوار الكشف والإلهام واطلع على أسرار الصوفية وهو فى العشرين، ثم أُمر بالرحلة إلى مكة حيث فُتح عليه فيها وكتب أهم كتبه الفتوحات المكية، ويتنقل بعد ذلك فى البلاد بين مصر والعراق والشام وتركيا ويقابل السهروردى، ويستمر فى مسيرته الروحية فى التعليم والتأليف، وفى سن الستين من العمر بلغت شهرته العالم الإسلامى، وتنافس الملوك والأمراء على استضافته ولكن حالته الصحية ألزمته أن يستقر، فاستقر فى دمشق للإقامة بها حتى وفاته ودفن بها.