كثيرون قالوا بالصوت الحيانى إننا لا يجب أن نتعامل مع ما جرى فى شرم الشيخ للطائرة الروسية بخوف، ولا بد أن نبدو أقوياء، وأن نُعَبِّرْ عن هذه القوة بكل الطرق الممكنة، فهى مطلوبة ومهمة بالنسبة لنا. وأنا أوافقهم على ذلك. ولكن التعامل بقوة مع ما جرى ومحاولة الظهور بمظهر القوى لا يمنع أى مصرى من أن ينتقد طريقتنا فى التعامل مع المحنة.
لن أتعرض لموقف الغرب منا، فبعد تفجيرات باريس اكتشفت أنهم عاقبوا مصر، لأن الطائرة أسقطت فوق سيناء، فى حين أنهم تضامنوا مع فرنسا وأعلنوا استعدادهم لدخول الحرب معها بعد التفجيرات التى جرت على أرضها. وهو موقف متوقع ولا يشكل أى مفاجأة من أى نوع كان بالنسبة لى.
ما أقصده، وما كنت أحب الكتابة عنه بصورة علنية، هو حالة الارتباك التى تصرفنا بها. وما زلنا نتصرف بها حتى الآن. إنها الحالة التى تعطينى فى بعض الأحيان إحساساً أرجو ألا يكون دقيقاً بأننا نحكم بلدنا بمنطق الهواة. مع أن بلداً عريقاً وقديماً مثل مصر لا بد أن يحكمه أعظم المحترفين فى الحكم. لا يجب أن ننسى أن مصر دولة إقليمية عظمى، وأنها عرفت أول نظام حكم فى التاريخ، وأنها هى التى أهدت البشرية الضمير الإنسانى. بل إن بعض المؤرخين العالميين، وفى المقدمة منهم أرنولد توينبى، وهنرى جيمس بريستد يقولون إن مصر هى التى اخترعت الضمير الإنسانى وأهدته للبشرية لكى يصبح نبراساً يمشى عليه الإنسان والمجتمعات والدول والحضارات. هل يعقل أن تمضى روسيا فى التحقيقات بسلاسة وشفافية فى الإعلان والكلام الواضح المحدد؟ مع أننا كنا ننظر إليها باعتبارها دولة قامت على أنقاض إمبراطورية قديمة انهارت فجأة. وأن محاولة جمع شتات ما تبقى من الاتحاد السوفييتى قد تستغرق سنوات طويلة. هل يعقل أن وزير الطيران المصرى لا ينطق بكلمة واحدة عن الطائرة المنكوبة على أرضنا إلا بعد مرور أسبوع على تحطمها؟ التزم خلاله الصمت ولم يتكلم. وحتى لو كان صمته بدافع انتظار نتائج التحقيقات. وهى مسألة لا بد أن تحترم. ولكن فى مواجهة هول ما جرى، فإن الصمت لا يمكن أن يكون من ذهب، ولا من فضة، ولا حتى من تراب. عندما يبحث المواطن عن المعلومة ولا يجدها فى بلده، سواء من الحكومة أو الإعلام، فمن الطبيعى أن يلجأ للخارج. والخارج لم يعد بعيداً. لقد دخل غرف النوم، وأصبح جزءاً من وجدان كل مصرى. والإعلام الخارجى قد تحركه أهواء ومواقف ومقاصد، وخصومنا يمتلكون ترسانة إعلامية ضخمة تمرح وتفعل ما تشاء من حولنا دون حسيب أو رقيب. تصورت أن التحقيقات فى الموضوع ستكون مشتركة بين مصر وروسيا. وأنه ليس من حق مصر أن تعلن أى نتائج، وعلى روسيا أن تلتزم بنفس الموقف، ولكننا فوجئنا كما فوجئت الحكومة بأن الإعلام نقل لنا أنهم توصلوا لأن قنبلة انفجرت كانت موضوعة تحت أحد المقاعد فى الجزء الخلفى من الطائرة. قبل أن ننفى وقبل أن نخرج، لنقيم حفلات النفى. خرج داعش لينشر صورة علبة صفيح لمشروب غازى، وقال إن علبة مماثلة لها وضع فيها القنبلة التى وضعت تحت مقعد الطائرة، وهذا معناه أن أحداً دخل المطار واقتحم الطائرة وصعد إليها ووضع القنبلة وثبتها، ثم نزل دون أن يلحظه أحد، أو يستوقف صعوده أحد. أكثر من هذا نشر «داعش» صور جوازات سفر للقتلى. وواضح عليها أنها لم تمس، وهذا التصرف يؤكد أن الدواعش وصلوا لمكان التفجير قبل أن نصل نحن إليه. أنا لم أقع ضحية تصديق كل ما يقوله «داعش»، بل يجب أن يؤخذ الأمر بأكبر قدر من الجدية، وألا نركز فى كتاباتنا عنها بحكاية جهاد النكاح. وغيره من الخرافات التى تسطح الأمر وتفقده من محتواه وتخرجه عن سياقه وتفرغه من مضمونه، فلا بد أن نعترف أننا -لسنا نحن المصريين فقط- ولكن العالم، لا يعلم الكثير عن الدواعش المعرفة التى تمكنه من القضاء عليهم، وإن علم يعلم لنفسه. ثم هل يقتل فى سيناء 238 روسياً، ويتحول الأمر بالنسبة لنا لحفلات غناء وسفر مطربين ومطربات وتردد ممثلين على شرم الشيخ بحجة أن هذا سيدفع السياح للحضور لبلدنا وكأنه لم يحدث تفجير. واللهاث وراء من يسافرون إلى شرم الشيخ لإثبات أنها خالية من الإرهاب والتطرف قد تناسوا الشهداء الروس وعددهم ليس قليلاً. بل يوشك أن يصل لأعداد قتلى المعارك. وكل من يذهبون لشرم الشيخ يخاطبون المصريين، مع أنه لا توجد مشكلة عندنا. المشكلة عند السياح الأجانب، وكان يجب مخاطبتهم والتوجه إليهم والكلام معهم. وامتثالاً للعادة المصرية، نسينا الطائرة المنكوبة، كما سبق أن نسينا شهداء الحرم المكى، ومنهم من لم نتوصل لجثثهم حتى الآن. وانشغلنا بتوافه الأمور -وهذه مجرد أمثلة- مَن الذى دفع تكاليف سفر القضاة؟ فيرد وزير العدل أن من دفع التكاليف هم القضاة أنفسهم، مع أننا نعرف أن نادى القضاة تحمل تكاليف السفر، وأن السلطات المحلية فى شرم الشيخ تولت أمور الضيافة، ولا أعرف ما هو العائد من وراء هدر الإمكانيات الذى مارسناه، وما زلنا نفعله وسنظل نقوم به فى شرم الشيخ.
الخطأ كارثة. يجب أن نتعلم ونواجه أنفسنا بأخطائنا قبل التغنى بمزايانا.