باللوح والمحبرة.. «الكتاتيب» الفرصة الأخيرة لتعليم أبناء «البدون»
باللوح والمحبرة.. «الكتاتيب» الفرصة الأخيرة لتعليم أبناء «البدون»
أطفال «البدون» يتعلمون بالطرق البدائية
يتراصّ الأطفال على الحصر الخضراء وبين أناملهم الصغيرة ألواح خشبية قديمة، أكل الدهر عليها وشرب، يغمسون بعض الأقلام الخشبية فى المحبرة، ويشرعون فى كتابة آيات الذكر الحكيم، ولا يتوقف لسانهم عن الترتيل: «اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الإنسان من علق»، تتناغم أصواتهم فى توافق رائع، حيث يتابعهم عن كثب شيخهم العجوز «حسن هبن»، والمعروف بحسن الشريف، هنا خلوة تحفيظ القرآن بقرية العالى، أحد أكثر الأماكن التى تضج بالبدون، ويعد هو وبضعة كتاتيب تعد على أصابع اليد الواحدة الفرصة الوحيدة لتعليم أبناء البدون فى مثلث حلايب وشلاتين.
«هبن» جاء من السودان إلى شلاتين منذ 19 عاماً لتعليم أبناء قبائل البشارية والأتمن والهدندوة اللغة العربية والقرآن الكريم
بجلبابه الأبيض والصديرى الأسود، زِى أبناء قبائل البشارى، يجلس على مقعده الخشبى، ويمسك بيمينه عصاه، يعدل من وضع عويناته الطبية ويقلب نظره بين الأطفال المتراصين أمامه من بعد صلاة الظهر، يشير إليهم واحداً تلو الآخر، ليأتى بين يديه، يشبك يديه ويسمى الله ويتلو عليه ما حفظه من الآيات بهدوء.
يعيش «هبن» فى شلاتين منذ 19 عاماً، جاء من السودان لتعليم أبناء قبائل البشارية والأتمن والهندنوة اللغة العربية والقرآن الكريم، يقول «هبن» بلهجة بدوية لا تخلو من بعض كلمات الرطانة، إنه يعلم أكثر من 120 طفلاً من أبناء عزبة «العالى» القرآن، منهم 20-30 لم يلتحقوا بالمدرسة لأنهم ليست لديهم أوراق ثبوتية، وإن فرصتهم الوحيدة فى التعلم تكون هنا فى الكتّاب، ولذلك هو يخصهم ببعض من الاهتمام عن غيرهم، ويضطر فى بعض الأحيان إلى أن يقسو عليهم لأنه يعرف أن فرصتهم الوحيدة فى التعلم تكون من خلال كتّابه الأثير.
يتوافد على «هبن» الأطفال يومياً من بعد صلاة الظهر طيلة أيام الأسبوع، فيما عدا الخميس والجمعة، داخل تلك الغرفة المبنية من الطوب الحجرى، ومحاطة بأسوار كبيرة من كل اتجاه، ما زالت تحتفظ بتقاليد الكتاتيب القديمة، تلك المحبرة والألواح الخشبية، وفى خارج الغرفة تظهر بركة من الماء يلتف حولها الأطفال، لينظفوا تلك الألواح بعد انتهاء ساعات الحفظ، ويقول «هبن» إن الأهالى فى تلك المنطقة يقدسون تلك المياه التى تغسل به الألواح ويتباركون بها.
يقف «هبن» فى وسط الكتّاب، ينادى بصوت جهورىّ: «من منكم ليس له شهادة ميلاد.. عليه بالوقوف»، يستجيب البعض ولكنه يكررها بالرطانة مرة أخرى، فيستجيب البعض الآخر، ليأتى له عدد لا بأس به من الجالسين، يوقفهم بجانب الحائط، ويقول إنهم يلتحقون بالخلوة كما يحلو له أن يسمى الكتّاب من أربع سنوات وحتى 12 سنة: «ييجوا صغار ويكبروا معايا».
الشيخ سعد محمود، مدرس بالمعهد الأزهرى بالشلاتين، جاء من محافظة أسوان قبل عشر سنوات للعمل بالمعهد، وجد فى إقبال أهالى المدينة على الكتاتيب فرصة لتعليم القرآن، وهو ما دفعه بالمشاركة فى العمل بأحد الكتاتيب المنتشرة بالمدينة والتى يعدها بخمسة كتاتيب، أغلبها ما زال يعمل باللوحات الخشبية والمحبرة، بالطرق القديمة ولكن هو وزملاؤه من أسسوا أحد الكتاتيب الحديثة التى تقوم على الكراسات الورقية والسبورة.