أعرف حرج الموضوع الذى أكتب فيه، لكن لا بد مما ليس منه بد! الموضوع يتعلق ببساطة بزيارة قداسة البابا «تواضروس» إلى القدس لحضور قداس جنازة الأنبا «إبراهام» مطران القدس والشرق الأدنى. حالة من الدهشة اعترت الكثيرين أمام هذه الزيارة، وهى دهشة لم يخفف من وقعها ما ذكره البابا من أن السبب الذى دفعه إلى السفرة يرتبط بوصية الأنبا «أبرهام» بالصلاة عليه ودفنه فى القدس، ووصية الراحل أمرٌ له وجاهته، واحترامه واجب بلا شك، لكن السياق الذى تمت فيه الزيارة جعل الكثيرين يقفزون على هذا السبب، ويتعجبون من الخطوة التى قام بها البابا، وذلك لسببين: أولهما أن هذه أول زيارة يقوم بها رأس الكنيسة المصرية إلى القدس عبر مطار تل أبيب، منذ نكسة 1967، وثانيهما أن الزيارة تتزامن مع تصاعد انتفاضة الفلسطينيين، وخصوصاً من المقدسيين، بسبب الاجتياحات المتكررة للمسجد الأقصى من جانب المستوطنين وجيش الاحتلال الإسرائيلى.
عندما وقع عدوان 1967، والذى احتلت إسرائيل على أثره أرض سيناء، قرر نياحة البابا «كيرلس» عدم الذهاب إلى القدس، وبعد أن توفى عام 1971، سار نياحة البابا «شنودة» على دربه، ورفض الحج إلى القدس، واعتبر أن هذا موقف ينطبق على كل أبناء الكنيسة المصرية. واللافت أن هذا الموقف تواصل بعد توقيع معاهدة السلام 1979، حيث أصر البابا شنودة على رفض زيارة القدس، والحج إليها، رغم الضغوط التى مارستها السلطة السياسية عليه حينذاك، إذ كانت تسعى إلى دعم تطبيع العلاقات مع إسرائيل من كل الطرق والمسالك الممكنة. وقال البابا «شنودة» فى هذا السياق قولته الشهيرة: «لن ندخل القدس إلا وهى فى أيد عربية». فى هذا السياق يمكن أن نفهم حالة الدهشة، وربما أيضاً الصدمة، التى شعر بها البعض وهم يقرأون أو يسمعون عن خبر زيارة البابا «تواضروس» للقدس عبر «تل أبيب»، وتساءلوا: هل اتخذ رأس الكنيسة المصرية قراراً بتطبيع العلاقات مع إسرائيل أم أن الأمر يرتبط برغبة إنسانية من جانب البابا للمشاركة فى قداس جنازة الأنبا «إبراهام» الذى وصفته بعض التقارير بـ«أستاذه»؟.
عمَّق أيضاً من الأثر الصادم لهذه الزيارة العربدة الإسرائيلية التى تتواصل فى الأراضى الفلسطينية، وخصوصاً داخل القدس المحتلة. فلا يكاد يمر يوم إلا ويسقط شهداء بآلة القتل الإسرائيلية، وبالتالى فقد جاءت الزيارة فى سياق ظرف مربك، وبالتالى كان من الأحوط أن يتم المواءمة بين رغبة البابا فى تنفيذ وصية الأنبا الراحل، ومحبته له، وبين الشعور العام المتعاطف مع الفلسطينيين الذين يدفعون ثمناً يومياً لمواجهتهم لاحتلال استيطانى لم يعرف له التاريخ مثيلاً. نحن لا ننكر أن مصر مرتبطة بمعاهدة سلام مع إسرائيل، لكن الكل يعلم أن التطبيع مع إسرائيل أمر رفضه غالبية المصريين منذ توقيع هذه المعاهدة، ليس ذلك وفقط، بل هناك مؤسسات عديدة من مؤسسات الدولة المصرية ترفض التطبيع مع إسرائيل، بسبب ممارساتها ضد الفلسطينيين، وتعنتها الواضح فى إقامة سلام عادل معهم. سلام عادل سبق أن أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى فى أكثر من مناسبة إلى أنه يرتكز على إقامة دولة فلسطينية تكون عاصمتها القدس الشرقية. إنها حقاً زيارة مدهشة!.