«الأزبكية».. الأعمدة الخشبية تسند المنازل وانهيارها «مسألة وقت»
«الأزبكية».. الأعمدة الخشبية تسند المنازل وانهيارها «مسألة وقت»
أطفال يحاولون النزول من غرفهم عبر سلم خشبى متهالك
كانت منطقة الأزبكية من أرقى مناطق القاهرة، وكان هذا أحد الأسباب التى جعلت نابليون بونابرت، عندما وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر، يختار تلك المنطقة ليقيم فى أحد القصور الموجودة بها آنذاك ويتخذ منها مقراً لحملته، هذا ما ذكره التاريخ القديم، لكنها الرواية التى لا تعلم «أم عبدالنبى» عنها شيئاً، فالمرأة الستينية لم يشغلها التاريخ يوماً، ولم تسمع شيئاً عن نابليون، وأكثر ما يشغل بالها ذلك المنزل المتصدع الذى تسكن داخل غرفة به، فيما تتوزع ثمانى غرف فى نفس المنزل على ثمانى أسر أخرى يشتركون فى دورة مياه واحدة.
تسكن «أم عبدالنبى» تلك الغرفة فى حارة جودة المتفرعة من شارع القللى منذ أكثر من أربعين عاماً، تروى قصتها بينما تجلس على كرسى متهالك وضعته خارج المنزل للهروب من الغرفة التى لا تزيد مساحتها على 7 أمتار تسكنها مع بناتها بعد وفاة زوجها، تشير إلى تلك الشقوق التى تتوزع على حوائط المنزل كله وكأنها تبحث عن شىء لم تجده بعد، تقول: «إحنا مستنيين فى أى لحظة البيوت دى تقع فوق دماغنا بس مالناش مكان تانى نروحه وماقدرش أتحمل تكلفة إيجار بيت بره، أنا كل اللى باخده فى الشهر 323 جنيه معاش من الحكومة، أعمل بيهم إيه ولا إيه؟».
الأطفال هناك يتخذون من الشارع ملعباً لهم طوال الليل والنهار، فهنا فقط يشعرون بالحرية التى يفتقدونها داخل الغرف الضيقة التى يسكنونها مع أسرهم، لكن مهما طال بقاؤهم فى الشارع فالصعود إلى تلك الغرف أمر لا مفر منه، وأمامهم تحد كبير فى الصعود على ذلك السلم الخشبى المتهالك وهو طريقهم الوحيد للوصول إلى غرفهم، فالمنزل مكون من طابقين أحدهما الصعود إليه بسلم عادى، أما الثانى فالوصول إلى غرفه لا طريق له إلا ذلك السلم الخشبى.
مرتبة بالية وبطانية تملأها الخروم، هذا هو كل ما يملكه بلال ذو الستة عشر عاماً، يسكن تلك الغرفة مع والده بعد أن توفيت والدته منذ 7 سنوات، «بلال» لا يتلقى أى تعليم، بل يذهب مع الصباح الباكر إلى إحدى الورش التى يعمل بها ميكانيكياً بعد أن تعرض والده لحادث جعله لا يقوى على الحركة بشكل طبيعى، لكنه برغم ذلك يترك بلال من آن لآخر ويذهب للبحث عن أى عمل يساعد من خلاله ابنه الوحيد على نفقاتهم.
«إحنا بنقول يا رب».. هكذا يقول بلال الذى يسكن فى غرفة تملأها الشقوق، بل إن أرضيتها تهتز بأقل حركة عليها، وبرغم أن الغرفة التى توجد أسفل غرفته تعرضت لانهيار جزئى جعل من فيها يهجرونها فإنه لا يفكر فى ترك غرفته تلك لأنه ليس له مكان آخر يذهب إليه حسب قوله، بل إن سكان البيت يستخدمون بعض الأعمدة الخشبية لتدعيم البيت فى محاولة لمنع انهيار أجزاء أخرى. تسرع الطفلة الصغيرة فى النزول عبر السلم الخشبى المتهالك، تصل إلى والدتها التى وضعت «وابوراً» صغيراً فى الشارع أمام المنزل حتى تجد متسعاً لها لإعداد الطعام لأبنائها، تسأل الطفلة الأم عما إذا كانت انتهت من إعداد الطعام فتجيبها بالنفى، تشعر الطفلة بخيبة أمل وتجلس فى انتظار والدتها لأنها تخشى الصعود وحدها مرة أخرى إلى الغرفة عبر ذلك السلم الخشبى، فهى لا تزال تتذكر تلك الصرخة التى سمعتها حينما سقطت إحدى جاراتهم أثناء نزولها من عليه، تقول «أم محمد»، والدة الطفلة: «إحنا عايشين اليوم بيومه، يعنى ما ينفعش آخد ولادى وأروح أسكن فى حتة تانية لأنى مش هقدر أدفع إيجار، البيت هيقع هيقع بس بدعى نكون كلنا بره يوم ما ده يحصل».
فى المنزل المجاور، تسكن آمنة أحمد عبدالخالق مع ابنها وزوجته وأبنائه، تصعد سلم المنزل بحذر شديد فقد سبق لتلك السلالم أن انهار جزء منها من قبل، ما اضطرهم لترميمها، أما ذلك «الدرابزين» فهى تخاف أن تمسك به حتى لا يسقط هو الآخر، وربما هذا ما جعلها تطلب من أحد المقاولين أن يقوم بمحاولة ترميمه بواسطة عمود خشبى يصل بينه وبين الحائط، إضافة إلى عمود آخر قام المقاول بوضعه بعد أن سقطت بعض أجزاء من أرضية المنزل فى محاولة منه لمنع سقوطه مرة أخرى.
حالة المنزل تسوء كلما مر قطار على السكة الحديد حيث يتسبب فى اهتزاز المنزل بكامله، تقول آمنة: «الناس بيخافوا من الزلزال عشان بيحسوا بيه كل كام سنة مرة إنما احنا بنحس بيه كذا مرة فى اليوم»، وتضيف: «الشتا اللى فات كان فيه رياح جامدة والبيت كله كان بيتهز وابنى قال لى خدى ولادى وانزلى وأنا هلم الحاجة وآجى وراكم، كنت خايفة أسيبه بس قال لى العيال أمانة فى رقبتك لو مالحقتش أحصلكم».
حالة الرعب تلك لا تغادر زوجة ابنها أيضاً، تقول «أم عبدالرحمن»: «أنا بقالى فى البيت هنا معاهم 5 سنين بعيش فى رعب فى كل لحظة البيت فيها بيتهز»، وتؤكد أنها تستطيع أن تعرف ما إذا كان هناك أحد يصعد على السلم أم لا، حيث تشعر باهتزاز السلم فى حالة صعود أى شخص حتى لو كان طفلاً صغيراً، وتنهى كلامها: «أنا بخاف على بنتى الصغيرة وهى طالعة السلم معايا عشان ببقى شايلة ابنى عبدالرحمن، ودى طفلة مش فاهمة إنها لو سندت على الدرابزين ممكن تقع. بس أنا سايباها على ربنا عشان مفيش قدامى أى خيارات».
«أم صابر» تدفع جنيهاً واحداً فقط كإيجار للشقة التى تسكنها فى البدروم فى منزل مكون من طابقين بشارع مراد المتفرع من القللى، وبرغم أن هناك قراراً من الحى بإزالة طابقين بسبب الشروخ التى أصابت المنزل فإنها ترفض أن تغادره إلى منطقة النهضة التى تسلمت فيها شقة لتقوم بإخلاء بيتها المهدد بالانهيار، تقول «أم صابر»: «إحنا ناس غلابة أكل عيشنا هنا وكمان هما سلمونا الشقق مافيهاش ولا سباكة ولا كهربا ولا أى حاجة هنروح نعمل إيه؟».
البحث عن بيوت آيلة للسقوط ليس بالأمر الصعب داخل حى الأزبكية، فالشقوق التى تكاد تقسم المنازل نصفين لا تستطيع العين إغفالها، وهؤلاء الذين يسكنونها مضطرين لا يجدون إلا الله ليتوجهوا إليه بالدعاء بأن لا تتم إضافتهم إلى قائمة الموتى تحت الأنقاض، أما الجهات الحكومية فلا تجد طريقة تحل بها أزمة العقارات المهددة بالانهيار، ودائماً يبقى الوضع على ما هو عليه.
محررة «الوطن» داخل إحدى المنازل المتهالكة
طفل يلهو داخل أحد المنازل المهددة بالانهيار