ذات مرة شاهدت بطلة فيلم أمريكى تكاد توقف الدنيا ولا تقعدها من فرط انفعالها، كانت كالعاصفة وهى تحكى لصديقتها عن الأسباب التى جعلتها تترك خطيبها، قالت فى حدة: إنه مخادع، لقد وعدنى بأغطية ومفارش من القطن المصرى ونحن نؤثث لبيتنا الجديد، فإذا به يغشنى ويجلب لى قطناً غير مصرى. وكان هذا سبباً كافياً لهجران تلك المرأة الملتاعة لخطيبها الغشاش، فالغش نهايته الطبيعية الفقدان، لكنه أدهشنى لأنه ما زال هناك فى العالم من يتذكر أهمية القطن المصرى أساساً. تذكرت هذا المشهد حين استمعت إلى كلمة مصممة الأزياء ماجدة داغر أمام المؤتمر التمهيدى لمهرجان قفطانوس للموضة فى طنجة بالمغرب، قالت: «النهوض بصناعة المنسوجات سيزيد من الدخل القومى، إذا اهتمت الدولة بإحياء هذه الصناعة واحتواء مصممى الأزياء ودعمهم لتقديم مشروع متكامل لجعل الموضة رافداً من روافد الاقتصاد يضخ المليارات، كما فى دول مثل فرنسا وإيطاليا وتركيا والهند والصين».
وكنت أتابع محاولات حثيثة من ماجدة داغر لطرح فكرتها عن مشروع وطنى للنهضة بصناعة الملابس فى مصر، حتى إنها حين قابلت بالصدفة رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب طرحت عليه رؤيتها، لكن على ما يبدو أنه نظر إلى الموضوع كأنه شأن ترفيهى من العيب طرحه فى هذه الظروف العصيبة التى تمر بها البلاد، ولم يرد عليها لا بالنفى ولا بالإيجاب، وعله لم يخطر فى باله أن البلاد تحتاج إلى تنميتها الزراعية والصناعية وربما يكون قد نسى ما نشأنا عليه ونحن صغار من أن الاقتصاد المصرى كان يقوم على القطن والسينما، أما السينما فلها حديث آخر، بينما القطن المصرى المعروف بجودته العالية، طويل التيلة المؤهل لصناعة المنسوجات العالية الجودة، يواجه التوحش الانفتاحى الذى جثم على الأنفاس منذ السبعينات وحوَّل مصر إلى مجتمع استهلاكى لا يعتمد على زراعة أو صناعة، التراجع فى زراعة القطن بعد أن كانت تمثل أكثر من خُمس مساحة الأراضى الزراعية لصالح الكانتلوب والفراولة وتجريف الأرض، تبعه انهيار فى صناعة النسيج؛ صورة أخرى من الانحدار أمام طوفان الإهمال والخسارة والخصخصة وإغراق الأسواق بالمنسوجات التركية والصينية مثلاً، وهنا ينتابنى هاجس السؤال: ماذا لو أن المحلة، مدينة الغزل والنسيج التى تستفيق يومياً على دوى صفارة المصانع صمتت فجأة؟ ثم تداركت أن المدينة بالفعل تستيقظ على صوت الصفارة، لكنه ضجيج بلا طحن، مع الاعتذار لاستخدام العبارات الكليشيه، فالعمال هناك لا يخبئون مفاجآتهم الخاصة بالنهوض فى أحصنة طروادة وإنما يتسترون بأوجاعهم التى تجاوزت حدود مصانعهم وخريطة شركة مصر للغزل والنسيج نفسها بكل فروعها التى أصبحت كالأنفاق الرمادية، الرؤية فيها مشوشة بل ولا تؤدى إلى شىء؛ ما جعلنى كدت أفقد وعيى حين قرأت تقريراً عما توقعته مجلة «جون أفريك» الفرنسية فى العام 2013 من تحول مصر فى غضون السنوات إلى «تنين» صناعة الملابس الجاهزة والمنسوجات فى دول حوض البحر المتوسط وربما فى العالم، وزادت فوصفت مصر بأنها «جنة» المنسوجات الجديدة فى العالم، اعتمدت المجلة فى تنبؤها المدهش على ما تملكه مصر من طاقة رخيصة ومواد أولية وأيد عاملة وإيمان رجال الأعمال الأجانب بها، أما رجال الأعمال المصريون فـ«لا حس ولا خبر»، وتظل أمنية ماجدة داغر بمشروع قومى للمنسوجات، ويظل حلم الكثير من الشباب بتفعيل القطاع العام وتشغيله بـ«مفتاح» حقيقى وانتشالهم من غول البطالة، وتظل ليلى مراد وحدها تربت على مكن المصانع وتغنى: دور يا موتور يا للى بتلعب أعظم دور/ دور على كيفك واغزل صوفك لا هنا مراقب ولا كونتور/ مصر الحرة ولو تتعرى ما تلبس نسيج من بره لا حرير بمبة ولا كستور.