لقد صدق علماء المسلمين والمشايخ الذين سافروا للغرب للدراسة أو العلاج أو النفى أو لأى أسباب أخرى، وقد قالوا واحداً بعد الآخر: «وجدت فى الغرب الإسلام ولم أجد المسلمين». هذا صحيح فى بعض الحالات، خصوصاً فى رسوخ بعض القيم فى هذا الغرب بعد إهمالها فى بلاد المسلمين، بشكل واضح وعلى نطاق واسع. ولكنها تصدق فى معظم ما يتعلق بالحياة الدنيا أو المختبر، أى المعمل العلمى.
قصة اليوم التى أذكرها هنا تؤكد أهمية بعض تلك القيم فى حياة كثير من الغربيين، ومنها الأمانة والدقة والهمة. وهى قيم من أسباب التقدم حتى العلمى منه، خصوصاً غزو الفضاء. قيم مهمة فى المعمل وفى الحياة، ومهمة فى المدرسة، ومهمة فى مجالات الرعاية الصحية والتعليمية.
أعرف عائلة كريمة من عوائل مصر، ربطتنى بالجد، رحمه الله تعالى، علاقة قوية. حفيدة هذا الجد ذهبت لإكمال الماجستير فى جامعة أوروبية فى مجال علمى مهم.
وبعد نهاية الدراسة والنجاح، كانت تلك الحفيدة الطالبة فى رحلة بالقطار إلى مدينة أخرى فى أوروبا لتستقل منها الطائرة إلى مصر بعد أن أنهت دراستها، وفقدت هاتفها فى القطار، بعد أن أبلغت أسرتها أنها فى طريق العودة إلى مصر. لم يستطع أهلها الاتصال بها، بعد ذلك هاتفياً، حتى عادت رحلتها إلى الوطن الحبيب. فى إحدى محاولات الاتصال بها هاتفياً أثناء رحلة العودة، أو تجربة الاتصال بالهاتف المفقود، رد على المكالمة أحد الأوروبيين. وجدت أختها أن الهاتف موجود مع ذلك الشخص الأوروبى الذى وجد الهاتف المفقود فى القطار. أرسلت الأخت رسالة من هاتفها، فى مصر إلى ذلك الرجل الذى وجد الهاتف وطلبت منه فى الرسالة أن يرسل الهاتف الذى وجده إلى الجامعة التى كانت أختها تدرس فيها، لعل الجامعة تتولى إرسال الهاتف إلى مصر. تطلب منه ذلك وهى لا تعرفه ولا يعرفها. هى فى مصر وهو فى أوروبا.
نسيت الأسرة قصة الهاتف، وفرحت بعودة الابنة الناجحة التى انغمست فى الحياة فى مصر، تسعى لمستقبل يليق بها وبالأسرة الكريمة، وبثورة 25 يناير، التى تمنت لها ولأهدافها النجاح، على البعد من أوروبا، ولكنها فوجئت بعد العودة، بأن أهداف الثورة لا تزال تحتاج إلى تحقيق. حزنت بعض الشىء حتى شاركت فى ثورة 30 يونيو، أملاً فى الخروج من الإرهاب والفساد والتخلف والتعصب خصوصاً.
مرت عدة أشهر حتى عاد الهاتف إلى صاحبته. هذا الرجل الأوروبى الذى وجد الهاتف فى القطار عندما تلقى الرسالة فعل مثلما طلب منه تماماً. أخذ الرجل الهاتف فأرسله بطرد محكم بالبريد إلى الجامعة، وطلب من الجامعة أن توصل الهاتف إلى صاحبته. قامت الجامعة بالتواصل مع زميلة مصرية لصاحبة الهاتف المفقود، كانت لا تزال تدرس فى الجامعة، أخذت الهاتف إلى مصر. وإذا بالهاتف عندما تسلمته الأسرة، موضوع بالطرد المحكم ومغلف، وملصق عليه صورة من الرسالة الهاتفية التى أرسلت للرجل الأوروبى.
تذكرت وأنا أستمع إلى هذه القصة الجميلة الحديث الجميل المنصف عن عمرو بن العاص، رضى الله تعالى عنه وأرضاه.
كان سيدنا عمرو عند المستورد القرشى عندما قال المستورد، لقد سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: كما ورد فى صحيح مسلم وغيره: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس». فقال له عمرو أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك». انتهى الحديث.
لمست بنفسى بعض هذه القيم والممارسات الجميلة وأنا فى المنفى فى بريطانيا، وتذكرت كيف أساء بعض العرب هذه القيم، خصوصاً الأمانة، فمنهم من يهرب من الضرائب ومنهم من يستولى على مساعدات من الضمان الاجتماعى دون وجه حق، ومنهم من يعمل فى السوق السوداء دون إبلاغ السلطات، مما اضطر الدول الغربية إلى تغيير بعض الأوضاع واللوائح التى تنظم تلك القيم.
هنا يسرنى أن أسأل القراء سؤالاً واحداً: لو أن تلك الفتاة المصرية نسيت هذا الهاتف على محطة من محطات القطار فى مصر أو العالم العربى أو الإسلامى على امتداده، ما فرصة إعادته إلى صاحبته فى معظم بلاد المسلمين؟ مقارنة سريعة، نحن أمة الإسلام، أمة الأمانة والقيم، والحكم الربانية العظيمة.
أقول هنا مثل ما قاله أولئك العلماء الكرام، الذين شهدوا للغرب بأن فيه إسلاماً دون مسلمين، وفى بلاد المسلمين نرى كثيراً من المسلمين، دون ممارسة الإسلام الصحيح وقيمه. لذلك كله، أصبح الغرب فى بعض المسائل نموذجاً نستورده، حيث لا يوجد عندنا النموذج، الذى نقتدى به عملياً فى حياتنا العلمية والصحية والاجتماعية.
ليست هناك مشكلة فى الاستيراد إلا إذا كنا نستورد، وعندنا الرصيد الكبير الذى أهملناه. فالإسلام يرحب بالصالح النافع من كل شىء. ولكننا نستورد معظم الأنظمة حتى النظام السياسى، فنخلط الديمقراطية بالديكتاتورية، بعد أن أهملنا نظام الشورى. وللحديث صلة، والله الموفق.