فجأة وبدون مقدمات امتلأت الأجواء بشعارات كرامة المصريين، وإحنا مش شحاتين ومش عاوزين فلوس من حد، وهذه إهانة لمصر وأهل مصر.
يحدث هذا الآن، أما السبب فهو حذاء ليونيل ميسى نجم فريق برشلونة وأحد أشهر وأمهر من لمس الكرة بقدمه فى العالم، ومعشوق الصغار قبل الكبار فى مصر، وحذاء ميسى لم ينزل فوق رأس مواطن مصرى، ولم يستخدمه فى ضرب أحد كما لم يستخدمه فى إذلال أى فريق مصرى فى مباراة لكرة القدم.. ماذا فعل ميسى كى يغضب منه بعض المصريين إذن؟
اللاعب الأرجنتينى الهادئ خارج المستطيل الأخضر، الساحر داخله، يعرف العالم عنه أنه مهتم بأعمال الخير وتنمية المجتمع وهو دائم التبرع للجهات المهتمة بتطوير التعليم والإنفاق على الصحة والفقراء فعل ذلك فى دولته الأرجنتين وفى سوريا وفى دول مختلفة على مستوى العالم بما فيها بعض الدول الأوروبية.
التبرع والإنفاق من أجل تنمية المجتمع ومساعدة الفقراء فضيلة، وقيام النجوم والمشاهير بهذا الدور ليس أمراً مستحدثاً أو غريباً أو عجيباً، لذا كان العجيب هذه الضجة التى اشتعلت فى مصر بعد أن أعلن ميسى عن تبرعه «بحذائه» فى مزاد علنى وخيرى تنفق أمواله على الفقراء فى مصر.
يقول الغاضبون إن ما فعله ميسى إهانة، وفى قولهم بعض من «الأفورة» لأن لغة المزادات الخيرية معمول بها من قديم الأزل، وكم قرأنا الكثير من القصص عن مزادات خيرية لبيع مقتنيات النجوم سواء مصريين أو عالميين وإنفاق مالها فى أوجه الخير، بعضهم إذا كان نجماً فى مجال الطرب يقيم مزاداً حول آلته الموسيقية وبعضهم حول قطعة من ملابسه، وآخرون حول مقتنياتهم، وميسى لاعب كرة، بل هو الأمهر على الإطلاق فى العالم وأغلى ما يملكه حذاؤه، وحذاء ميسى تحديداً هو الأشهر والأكثر مبيعاً فى العالم، وكم من لاعب كرة سبقه وتبرع بملابسه أو حذائه للبيع فى مزاد علنى تنفق أمواله فى أعمال الخير.
أى إهانة إذن فيما فعله «ميسى»؟، هل مثلاً مصر دولة غنية لا تحتاج إلى تبرعات خارجية؟، هل كذب اللاعب الأرجنتينى حينما قال إن القاهرة بها فقراء يحتاجون للمساعدة؟، هل مثلاً تكفل رجال أعمال مصر بالإنفاق على فقرائها بحيث لا يحتاجون إلى مصدر تبرعات خارجى؟، هل لا قدر الله نفتح شاشات التليفزيون ولا نجد بين الدقيقة والأخرى إعلانات تطلب التبرع للمستشفى الفلانى والقرية الفلانية والمشروع العلانى؟، هل مثلاً سمعنا أن لاعبى كرة القدم المصريين الذين يتقاضون ملايين أكبر من حجمهم كروياً قد تكفلوا وأنفقوا وسعوا لنشر الأعمال الخيرية وثقافة المزادات الخيرية؟
كل إجابة على أى سؤال من الأسئلة السابقة ستكشف لك أن ما فعله «ميسى» أمر طبيعى على نجم تربى وتعلم وجهزه من حوله ليقوم بدوره الاجتماعى على أكمل وجه، بينما نحن هنا نصرخ لغياب ثقافة المشاركة الاجتماعية من النجوم ورجال الأعمال ويتخيل أهل الخير فيهم أنه بمجرد تقديم مساعدة لفتاة يتيمة أثناء تجهيزات زواجها أو لأنه «كرمش» ورقة من فئة الخمسين فى كف «سايس» الجراج أنه بذلك أدى دوره فى عمل الخير، بينما ميسى هنا يضرب مثلاً فى تحويل عمل الخير والمساعدة والمشاركة إلى ثقافة ينشرها عبر المزادات العلنية لكى يشعر الجميع بالمشاركة.
الإهانة الحقيقية لم تكن فى تبرع «ميسى» بحذائه لفقراء مصر، لأن فى مصر فقراء فعلاً يحتاجون للمساعدة، ولأن حذاء ميسى له ثمنه، ولأن مزادات الخير ليست أمراً مستحدثاً أو عيباً، ولأننا لا نرفض التبرعات، ولأننا لم نجد فعلاً مماثلاً من نجومنا يسد تلك الفجوة، الإهانة الحقيقية كانت فى شكل الحوار، أن يكون هذا هو مستوى الحوار الذى يمكن أن يجريه الإعلام المصرى مع نجم بحجم ليونيل ميسى، الإهانة الحقيقية تتلخص فى كل هذا البؤس الظاهر فى حوار يرسم صورة السذاجة لوطن تاريخه الإعلامى يستحق ما هو أفضل من ذلك.