الدساتير لوحدها لا تصنع دولة المؤسسات الديمقراطية، فهى تحتاج إلى أمرين مكملين، يحتاجان بدورهما إلى كثير من الجهد والوقت.
الأول يتصل بما يسمى فى السياسة «بناء الدولة والمؤسسات» واستكمال مراحل «التحول الديمقراطى». أمامنا عملية مهمة يتم خلالها صنع القوانين والتشريعات المكمّلة للدستور، وإقامة المؤسسات، أو إصلاح القائم منها، ثم وضع السياسات التى تنقل الدستور والتشريعات والنوايا والأهداف إلى واقع يُغير أحوال الناس إلى الأفضل.
يحتاج هذا إلى إدراك القوى والأحزاب السياسية ثلاث ضرورات: الأولى أن البلاد تحتاج أحزاباً وتحالفات قوية لإحداث قدر أكبر من التوازن والتمثيل بالبرلمان القادم الذى سيقوم بهذا العمل التأسيسى، والثانية العمل فوراً على الأرض وتأهيل الكوادر وترشيحهم للمجالس البرلمانية والمحلية، وتمكين الشباب والمرأة. والثالثة: على كل الأحزاب أن تقدم الأجندة الوطنية الجامعة على الأجندات الحزبية، لأننا فى مرحلة البناء والتأسيس التى لا يجب الاحتكام فيها لمنطق الأغلبية والأقلية. وعندما تنتهى هذه المرحلة يجب التنافس فى تقديم البرامج المختلفة.
الأمر الثانى متصل بفروع أخرى للسياسة هى «الثقافة السياسية» و«التنشئة السياسية» و«التعليم المدنى»، ويهتم بتغيير ثقافة، أو ثقافات، الناس والمؤسسات القائمة، وتحويل الناس من مجرد «سكان» للبلاد إلى «مواطنين» فى دولة حديثة. فبالإمكان، كما تقول كتب السياسة، لمجموعة صغيرة من الرجال والنساء صنع ديمقراطية دستورية، لكن للحفاظ عليها يحتاج هؤلاء إلى إقناع عدد كبير من المواطنين بأن يكونوا مواطنين ديمقراطيين.
فالديمقراطية نظام للحكم يصنعه البشر، لكنه يحتاج إلى تطوير ثقافة داعمة له، ثقافة تُمكِّن المواطنين من ممارسة الديمقراطية وإدارة مؤسساتها. ولهذا لا بد من زرع وترسيخ قيم وآليات أن كل مواطن ليس مطيعاً فقط للدستور والقوانين، وإنما هو مشارك فى صنعها أيضاً عن طريق اختياره للحكام والنواب، وعن طريق ترشيح نفسه لمواقع المسئولية. ولا بد من زرع قيم وآليات النقد البنّاء والاختلاف فى الرأى والتعايش والتسامح، وقيم وآليات عدم الاستسلام للمستبدين وعدم السكوت على انتهاك الحقوق بكل المؤسسات، وعلى جميع المستويات.
لا بد من زرع قيم وآليات احترام المواطنين للدستور والقوانين، وقيم وآليات دفاعهم عن حقوقهم وحرياتهم وتمتعهم بحرياتهم بشكل مسئول وبما لا يضر الآخرين، وقيم ووسائل إسهامهم فى صنع السياسات والقرارات، وقيم ووسائل الدفاع عن الوطن، ولو بدمائهم، وقيم ووسائل تربية أبنائهم وبناتهم على هذا كله.
وعلى القادة والمسئولين بجميع مؤسسات الدولة السياسية والإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية والتعليمية ضرب المثل والقدوة فى الالتزام باحترام الدستور والقانون وفى الانصياع لإرداة المؤسسات المنتخَبة ديمقراطياً، وأن لا أحد فوق القانون، بدءاً من رئيس الدولة والنواب، مروراً برجال الشرطة والقضاء والجيش، وانتهاءً بأصغر مسئول بهيئة عامة.
لا بد من إقناع واعتقاد كل مواطن بأنه حتى تعمل الديمقراطية فى الواقع لا بد من قبول مجموعة القيم والمعايير التى تؤكد أن الدولة والمصلحة العامة تأتى أولاً وقبل أى اختلافات حزبية أو أيديولوجية، وأن جميع المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات، وأن هذه القيم جزء من المصلحة العامة للبلاد، وهى أيضاً جزء من المصلحة الخاصة لكل مواطن.
هذه الأمور لا تأتى من فراغ، ولا تولد مع الإنسان، وإنما لا بد لها من إرادة ورؤية واستراتيجية سياسية ومن مؤسسات تعليمية وتربوية وإعلامية ودينية وسياسية. والموضوع متصل.