يشبه الالتزام ببعض الأمور الأخلاقية فى التربية المشى على «الحبل» فى السيرك، خيط رفيع بين الحب الصادق والحب التملكى، بين طرح الاختيارات وفرضها، بين أطفال لأم تحاول ألا تكون سامة، وأخرى صارت كذلك رغماً عنها، كان هذا الخيار الأخير يخيفنى للغاية، وما زال، كيف أربيهم من دون أن أمتلكهم؟ كيف أحميهم وأؤمن حاجاتهم من دون أن أقرر مصيرهم؟ أيهما أصح، أن الطفل لا يعرف مصلحة نفسه، ويجب على الكبار أن يقرروا عنه، أم أنهم أذكياء جداً للدرجة التى تجعلهم قادرين على الاختيار منذ اللحظة الأولى لهم فى الحياة!
كيف يمكن تجاوز الخيط الرفيع بين حسن التربية والسيطرة، وصولاً إلى الابتزاز العاطفى، اكتشفت مع الوقت أن الأمر صعب للغاية، يمكن لأى كان أن يتخذ قراره بأن يصير أباً رائعاً، أو أماً يُضرب بها المثال، لكن التنفيذ على أرض الواقع يشبه السير فى حقل ألغام، مع كل خطوة جديدة اختبار أصعب وأكثر قسوة، والنتيجة حياة أو موت.
يقول مصطفى حجازى فى كتابه «التخلف الاجتماعى: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» إن من خصائص الحب التملكى التساهل فى كل شىء ما عدا الرغبة فى الاستقلال والتوجه نحو التفرد» لكن الأمر صعب حقاً.
كيف يمكن أن تنمى روح التفرد، والقدرة على الاختيار فى طفل، ثم تعود لتخبره بأنك لم تستطع الوفاء لأن الأمر أكبر منك، أو أن اختياره سوف يؤذيه، حسناً، سوف تشرح له، وتقنعه، وتقدم له البراهين والأدلة، لكنه فى النهاية، طفل، يريد السير وحده فى الطريق، هذا حقه، لكنه عامر بالسيارات، سوف يقاومك، وقد يركلك ويبتعد، أتتركه ليتعرض إلى حادث، أم تمسك يده بقوة حماية له وخوفاً عليه!
أذكر كل تلك المرات التى أصررت على منح أبنائى فيها حرية الاختيار، فانقلب الأمر ضدى.
- ألف أم باء؟
- نريد جيم
- لكنه ليس من بين الاختيارات
- لكننا نريده.. أليس من حقنا الاختيار!
حسناً، خضت تلك المناقشة مئات المرات، وأنا منهكة، ومرهقة، وحزينة جداً، أحاول، صدقاً أحاول، لكن كل شىء ينقلب فى وجهى بالنهاية، كل محاولة ترضية تتحول إلى إعلان عصيان، وكل محاولة للتفاهم تصير سجالاً بلا نهاية، وكل رغبة فى إبرام اتفاق تصير مساومة ورشوة مقنعة.. ما العمل!
أتحول بقصد أو من دون إلى «أم سامة»، حين أحاول فأخفق، حين تتحول أسعد اللحظات إلى أتعسها فقط لأننى أفقد السيطرة باستمرار، ما المطلوب حقاً، السيطرة أم الحرية، التربية لإحكام العناية أم التساهل لتأكيد الحب، الحسم أم اللين، أحدهما ينفى الآخر، والوضع صعب، أرغب حقاً فى أن أصير صديقة أولادى، الأم اللطيفة الطيبة التى يسعدهم وجودها، والتى لا يدفعون لها حاجة إلا قضتها، لكننى أصير دون قصد إلى أم متساهلة، أو مسيطرة متحكمة، لم أتخيل لحظة أن الأمر بهذه الصعوبة.
التربية فعل مرعب، أن تكون مسئولاً عن أرواح، عقول، أجساد، نفوس، أن تصير بشعاً لأنك تحاول أن تخبرهم بأن هذا أمر مؤذٍ، إن أشفقت انهارت هيبتى، وإن تجلدت صرت طاغية، ذلك الخيط الرفيع يشبه صراط الآخرة، حده قاطع، السير فوقه ألم، والسقوط عنه هلاك.. ما العمل!
للإجابة عن هذا السؤال بدأت رحلة خاصة جداً، بدأت بالمصارحة الذاتية، ومحاولة التعرف عن قرب على الأمومة السامة، تلك التى لا ننتبه إليها إلا حين تقضى على أطفالنا، نقع فيها من دون قصد، تارة من منطلق الحب، وتارة من منطلق المصلحة، وكثيراً من منطلق الإنهاك والإرهاق، لكن يبقى الأمر فى النهاية بيدنا، أن نكون سامين أو لا، أن ننتبه ونظل نحاول، أو نستسلم للذى صار وجرى، فما السبيل حقاً لأمومة غير سامة، لتلك قصة أخرى لاحقة.