الصدام بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية هو صراع بين مؤسستى الإعلام والأمن اللتين أصابهما الانفلات وانتفاخ الذات، فانتزع كل منهما نصيباً من الحيز العام يزيد كثيراً عما يحق له الاستحواذ عليه فى بلد طبيعى.
لن أعلق على أزمة اقتحام نقابة الصحفيين، فالمشرحة فيها من القتلى ما يكفى، ولم يعد هناك من دور سوى للمغسلين والحانوتية، ولهذا سأركز على جذر الأزمة، أى نقد الدور المتضخم لكل من الأمن والإعلام فى تقرير مسار الأمور فى هذا البلد. «الأمنقراطية» هى حكم الأمن و«الإعلامقراطية» هى حكم الإعلام، وأظن أننا فى مصر نعيش حالة من هذا النوع، بديلاً عن حكم الشعب، أو ما يسمونه الديمقراطية.
الأصل فى البلاد الطبيعية هو أن شئون السياسة والحكم هى أمور تخص الأحزاب السياسية فى المقام الأول، فيما تقوم هيئات ومؤسسات عدة أخرى، إدارية وقضائية، بتنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع وفض المنازعات بينها. غياب الأحزاب السياسية ومؤسسات الإدارة وفض المنازعات هو الخطيئة الكبرى التى حشرتنا فى زوايا الأمنقراطية والإعلامقراطية الضيقة، فلا رئيس الدولة ولا حكومته يأتون من حزب سياسى أو يستندون إلى تأييد حزب أو جماعة من الأحزاب، ولا المعارضون للرئيس والحكومة لديهم أحزاب سياسية تحمل من صفات الأحزاب ما يزيد على أسمائها، ولا هيئات الإدارة والقضاء تعمل باستقلال وحرفية كافية، فترك جانب كبير من شئون البلاد للأمن يضبط ويوجه، وللإعلام ينقد ويؤيد، مانحاً الشرعية أو خاصماً منها.
للأحزاب فى البلاد الطبيعية وظائف تؤديها، وغياب الأحزاب يستلزم قيام آخرين بهذه المهام، وهذا هو ما يقوم به الأمن والإعلام فى بلدنا. الأحزاب تعبر عن الاتجاهات والمصالح المتنوعة الموجودة فى المجتمع، وتبلور مطالب الفئات الاجتماعية التى تعبر عنها، فتحولها من مطالب خام فيها جلافة وارتباك إلى برامج قابلة للتطبيق خالية من التناقضات واللامعقول، وتختار وتدرب الكوادر القادرة على التعبير عن أفكارها وبرامجها، والتى تتابع ما يقوله الخصوم أو يفعلونه لاقتراح الرد المناسب عليه، والقادرة على التواصل مع جمهور مؤيديها والرد على ما يثيره خصومها من انتقادات، والمتملكة لمهارات إدارة الدولة حال وصول الحزب إلى الحكم، ومهارات التفاوض مع غيرها من القوى للتوصل إلى حلول وسط إذا اقتضى الأمر.
عدم امتلاك الرئيس والحكومة حزباً سياسياً أجبرهما على الاستعانة بالأمن وبعض الإعلام لملء الفراغ السياسى الواسع. فالأمن يتابع تصرفات وأقوال كل من تسول له نفسه الدخول إلى المجال العام السياسى والنقابى والفكرى والتطوعى، وآخرين كثر مما تسمح لهم ظروفهم وإمكانياتهم بالتأثير فى الوضع العام فى البلاد، فلكل ملفه الجاهز للعرض عند الضرورة. قد يظهر ملف البعض عند ترشحه أو ترشيحه لمنصب ما، بدءاً من وظيفة صغيرة فى الحكومة أو الجامعة، أو بعثة فى الخارج، انتهاءً بمنصب وزارى مرموق. وقد يظهر ملف البعض الآخر عندما يكون مطلوباً معاقبته على فعل ارتكبه أو لفظ تفوه به، فيتم «قرص ودنه» أو الإجهاز عليه تماماً بكشف الجزء المناسب من ملفه المستور، ولا مانع من إضافة بعض التحابيش والبهارات المثيرة إذا كان الموجود فى الملف غير كافٍ، وفى مثل هذه الأحوال فإن بعض الإعلام يعمل بالشراكة مع الأمن لترويج الفضائح وتدبيج الهجائيات اعتماداً على معلومات سرية لم يرهق الإعلام نفسه فى الحصول عليها أو تدقيقها.
مهام الأمن تزيد عما تم ذكره بكثير، فكل تجمع لعدد من الناس، من مباريات الكرة وحفلات الغناء والندوات واحتجاجات العمال والمظاهرات وأشباهها، هى اهتمام أمنى أصيل. حتى التصوير فى الشوارع وإجراء البحوث الميدانية أو الأرشيفية تحول عندنا إلى فعل مريب يستلزم الحصول على موافقات أمنية، حتى عندما تضع القوانين المعمول بها سلطة الترخيص والتصريح فى يد جهات إدارية تقتصر وظيفتها على إرسال الملفات إلى الأمن وانتظار رأيه.
الكلام هو ثلث السياسة، فيما ثلثاها الآخران هما التنفيذ من ناحية وإجراءات التنظيم والضبط من ناحية أخرى، وهنا يأتى دور الإعلام. وظيفة الإعلام هى أن ينقل ويمحص ويفتح الحوار حول ما يقوله أو يفعله الأشخاص والهيئات ذات الحيثية فى المجتمع، وعندما يصمت كل هؤلاء أو عندما يختفون كلية، فإن الإعلام يملأ الفراغ الناشئ بكلام من عنده، فيتحدث باسم الشعب، ويدافع عن الفقراء أو رجال الأعمال الأغنياء، كل حسب هواه، وينطق باسم المؤسسات والأحزاب، ويعبر عن الأيديولوجيات والنقابات وأصحاب المصالح، وبدلاً من أن يتحاور هؤلاء مع بعضهم البعض مباشرة، فإن غياب منابر وآليات الحوار تجبرهم على الحوار والتفاوض والتصارع عبر الإعلام، فينتزع الأخير دوراً ليس له، ويكتسب القائمون عليه قوة ونفوذاً ضرره يزيد كثيراً على نفعه.
الدور المتضخم للإعلام وغياب السياسة ومؤسساتها جعلا الإعلام هو الوظيفة المفضلة لسياسيين لم يجدوا ضالتهم فى مؤسسات حزبية وسياسية غير موجودة، ولمغامرين ومتطلعين لنفوذ -وما هو أكثر منه- يكتسبونه من خلال صناعة الكلام بها يذلون ويعزون ويناورون ويعارضون ويؤيدون.
كان الرئيس السيسى محقاً عندما وصف مصر بأنها «شبه دولة»، ومظاهر ذلك ليس فقط نقص الطرق وبؤس البنية التحتية وفقر الاقتصاد، لكن أيضاً غياب وضعف مؤسسات السياسة والإدارة وفض المنازعات، وهى الظواهر التى دفعت بنا إلى تضخم أدوار الأمن والإعلام. وبقدر ما تحتاج مصر إلى بنية اقتصادية وتحتية تؤهلها لتصبح دولة حقيقية، فإنها تحتاج أيضاً إلى مؤسسات السياسة والإدارة وفض النزاعات التى كان ضعفها وغيابها سبباً فى تسلط الأمن ونرجسية الإعلام.