"أبي وأمي يفرضان رأيهما بلا وجه حق، وبدون منطق، فلماذا؟!.. دخلت الحمام، وجلست على حافة البانيو، بابا ليس غبيًا أنا متأكدة، فهل هو إذن ظالم ومستبد؟!".. هذا المقطع من الفصول الافتتاحية لرواية "خديجة وسوسن" لرضوى عاشور، ينبئنا بأننا سنرى تجسيدًا آخر لرضوى عاشور، ولكن كعادتها رضوى تفاجئني مع كل قراءة لها.
في روايتها الثانية، تظهر الملامح السياسيّة التي ستطغى على روايات رضوى عاشور في ما بعد، وتظهر كذلك البذرة التي ستنبت عنها روايتها "فرج" بعد أكثر من عشرين عامًا من نشر هذه الرواية. كذلك تظهر في هذه الرواية ملامح "الأسلوب النقدي" للمجتمع من حولها، الذي كان لايزال في مراحل تطوره الأولى ليأخذ شكلًا روائيًا.
"خديجة وسوسن"، هي قصة مصريّة في الأساس، فهي تجسيد لكل عائلة مصرية بشقيها ما بين أم مستبدة متحكمة في أسرتها لأبعد الحدود، والفتاة ذات العقل المتفرِّد التي تحاول شق طريقها بنفسها.
هي قصة المرأة وتحولاتها في مجتمع شرقي خالص، فنرى فيها وجهين للمرأة المصرية كثيرًا ما يجتمعان في شخصية واحدة. وبالطبع، وكأي كتاب يحمل اسم رضوى عاشور، نجده مُغرقًا بشغفها السياسي وملامحها الشخصية.
خديجة هي مثال للفتاة الطموحة التي يراودها حلم دخول كلية الطب والسفر حول العالم، والتي تفقد كل هذه الأحلام لتصبح نسخة من أمها بزواجها المبكر.سوسن، ابنة خديجة الوسطى، يرى فيها الآخرون وجه آخر لخديجة، وترى فيها خديجة خيبة أمل لأنّها لم تستطع السيطرة عليها كباقي أولادها.
ولأنني اعتدت ربط نفسي بالشخصيات الروائيّة، أكره بعضها وأحب البعض الآخر، وجدتني أكره خديجة وأشفق على سوسن. أكانت أفكارها، أو تسلطها، أو نسيان طموحها، أم هو التساهل في تقديم فكرة تزويج الفتيات في الخامسة عشر من عمرهم، أم لأنّها بدت حقيقية، أكثر من اللازم؟ لا أدري أي هذه الأسباب ساهم في غضبي من خديجة ووقوفي في صف سوسن. يبدأ جزء خديجة وينتهي بتسلطها ليصبح هو الطابع المميز لشخصيتها وسبب رئيسي في أن تظل شخصيتها عالقة في ذهني حتى الآن.
"لا أفهم لماذا ضحك منّي النجار، ربما لم يقصد سوءًا حين ضحك، ربما حين يتعرف عليّ ويعرفني ويعرف أنني ذكيّة وسريعة التعلم يرضى عني ويحبني.. قال إنها (النجارة) ليست "شغلة نسوان" فلماذا لا تكون كذلك؟!".. بعد انتهائي من قراءة هذه الرواية استعجبت كيف لشخصية كانت بهذه الروح أن تتحول لأم مستبدة تؤمن بمقولة أمها الشهيرة "الولد أرحم!"، كيف يمكن لها أن تصبح تلك المرأة المُتسلطة، وكيف تقوم بتكرار نفس ما حدث لها بحذافيره عندما تُزوِّج ابنتها في نفس السن الصغيرة التي تزوجت فيها، لتكمل الدائرة البائسة لحياتها.
يبدأ جزء سوسن، طالبة الحقوق المتمرِّدة على المنزل والمنشغلة بالسياسة، ليكشف عن المجتمع وعائلتها المزيد. وما بين الخيانة الزوجية وسوء الفهم الذي عانت منه كل شخصيات الرواية، أجدني أقف أمام ما يبدو أنّها البذرة الأولى لرواية رضوى عاشور "فرج".
رواية "فرج" التي تتناول فتاة بنفس روح سوسن، يتبدى فيها نضج رضوى عاشور الروائي والسياسي. ندى، بطلة رواية عاشور السابعة، تبدو وكأنها نسخة أكثر نضجًا من سوسن، ومن رضوى عاشور نفسها. من خلال سياسات العالم العربي بما فيه مصر، فلسطين والعراق وخارجه المتمثل في فرنسا، عناء السجن الذي عانت منه عائلة بأكملها، نجد الكثير من ملامح سوسن، وندى، ورضوى عاشور تتداخل في بعضها البعض. لا تعد روايات رضوى عاشور روايات فحسب، ولكني أرغب في أن أعتبرها كلها مذكراتها بشكل أو بآخر.
نجد القليل من رضوى في كلٍ من خديجة وسوسن، ففي أحد المشاهد يجري حوار بين امرأة وخديجة في حمام السيدات بمطار أثينا، تعليقًا على غلق المطار، لتخبرها: (السادات انضرب بالنار)، يصبح هذا السطر، وهذا الموقف أكثر قوة عندما نعرف عن عداء رضوى عاشور الشخصي للسادات بسبب منعه زوجها الفلسطيني مريد البرغوثي من الإقامة في مصر خلال 1979.
أما سوسن التي ترتدي الأسود على عبدالناصر والتي تشارك في الثورة الطلابية، فنشعر بالألفة عند مقارنة فصولها القليلة وفصول آخر كتب رضوى، "أثقل من رضوى" لنجد نفس الروح المتمردة، نفس الحماسة عند وصفها للمظاهرات الطلابية داخل أو خارج الجامعة.
الغريب في قراءتي لرضوى عاشور أنني بدأت بأعمالها الأحدث فالأقدم، وما بين نصوص "تقارير السيدة راء"، مقاطع "أثقل من رضوى" الذاتية، روايات كـ"فرج" و"خديجة وسوسن"، أجدني قادرة على التعرف على أسلوب رضوى عاشور في غضون صفحات قليلة، وأعد نفسي لشحنة مُكثَّفة من السياسة وتوابعها النفسية، المجتمع المصري الذي تعشقه رضوى، ولمحات شخصية لا تستطيع الهروب منها.