«العدوة» قرية شرقاوية صغيرة وبسيطة وخجولة، تتوسط الطريق من الزقازيق إلى مدينة ههيا، تحيط بها قرى هادئة وادعة مثل المسلمية والمطاوعة والسكاكرة والفريدية، معظمها كانت تفاتيش إقطاعية للأسرة الخديوية كتفتيش الأمير محمد على والملكة فريدة، ثم تحولت هذه الإقطاعيات إلى أراضٍ للإصلاح الزراعى بعد ثورة يوليو 1952، تم توزيعها على صغار الفلاحين، فأصبحوا ملاكاً بعد أن كانوا أجراء.
حينما ترى العدوة وأنت على طريق الأسفلت، تشعر للوهلة الأولى أنك أمام قرية خجولة صامتة بلا صخب، أهلها يعملون فى فلاحة الأرض بدأب ومهارة المحترفين بعضهم ممن حصل على وظيفة فى مدينة الزقازيق، يعود إليها ظهراً حيث الغداء والقيلولة.
وعند العصر ينطلق إلى الغيط، فالأرض كالعرض، والملكيات كلها صغيرة ومحدودة، والناس سواسية كأسنان المشط، لا ثراء فاحشاً ولا فقر مدقعاً، لذلك فهم مشغولون دائماً بالعمل، وحينما تمر على البلدة وقت المغارب، تتحرك كل حواسك خلال الثوانى التى تقطعها السيارة أمامها، فترى وتسمع وتشم وتحس، تجد نفسك أمام طابور متقطع من القوافل الصغيرة العائدة تواً من الغيط، صبية وبنات، رجال ونساء، يصطحبون الدواب فى مشهد يعلو على أى ريشة أو كاميرا أو قلم.
وسط هذه الأجواء نشأ وترعرع الفلاح الشرقاوى محمد مرسى العياط، الذى بذل جهداً خارقاً -كغيره من أبناء الفقراء- ليتفوق فى دراسته فى زمن يوليو الذى كان فيه التعليم هو البوابة الملكية للصعود الاجتماعى، والدخول فى زمرة الطبقة الوسطى، والمؤكد أن الفتى (محمد مرسى) كان كأقرانه وفياً وملتزماً بموروثه الدينى والقيمى، بالإضافة إلى الجدية والاستقامة التى ميزت جيله، فلا يكذب إذا تحدث، ولا يخلف إذا وعد، ولا يخون إذا ائتمن، وإذا قرر شيئاً أو عزم على أمر قام به خير قيام، حتى أكرمه الله ودخل كلية الهندسة، وتخرج منها بتفوق.
كان ذلك قبل أن تستولى عليه (نداهة) جماعة الإخوان فى بداية الثمانينات، حينما وجد نفسه أسيراً لدين جديد يخالف عقيدته السلوكية والإيمانية التى تربى عليها، خاصة حينما اكتشف أن المؤمن الإخوانى يمكن أن يكذب ويحنث بالوعد ويغير مبادئه ومواقفه كما يغير جواربه، وذلك بهدف التمكين للجماعة صاحبة التوكيل الشرعى عن أمور الدنيا والدين، وبرغم هذه الصدمة الأخلاقية التى حدثت للشاب محمد مرسى إلا أنه صدق ما ألقى إليه، فسمع وأطاع ولبى حتى صار أكثر إخلاصاً للجماعة من مرشدها، فكان يصدع بما يؤمر دون نقاش أو جدل ما دام القرار سيخدم عشيرته التنظيمية، التى تعادل فى مكانتها وضع القلة المؤمنة المجاهدة فى صدر الإسلام، فصار لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم ولا يشعر ولا يتحرك إلا برأى الجماعة حتى أصبح -فى وقت قليل- أحد أعمدتها ورئيس حزبها، لكنه رغم انشغالاته بالجامعة والتنظيم كان دائم الزيارة لقريته العدوة، وهناك يكون على راحته، فيرتدى الجلباب الأبيض وتستقبله العائلة البسيطة دون طقوس، ويرحب الجيران بالدكتور محمد، ولا بأس من عزومة بط وحمام ومحشى كرنب، وبعدها زيارة للغيط للاستمتاع والتأمل والمساعدة فى بعض الأعمال، وربما اختار أكثرها مشقة ليثبت لمن حوله أنه ما زال ذلك الفلاح الخشن، الذى لم تجعله المدينة ليناً أو طرياً، كان الدكتور راضياً عن دوره فى الحياة، سعيداً بما أنجزه، حتى كان اليوم المشئوم حين اختارته الجماعة مرشحاً رئاسياً بديلاً عن الرجل القوى خيرت الشاطر، وبعدها بأسابيع قليلة فوجئ الدكتور المسكين بنفسه رئيساً لمصر، جالساً على عرش الفراعنة مينا وأحمس ورمسيس، وصانعى التاريخ الحديث محمد على وجمال عبدالناصر، ووعى الدكتور أن المهمة صعبة، وأنها تتطلب جيشاً من المستشارين المخلصين الأكفاء، ومشروعاً كبيراً للتنمية، لكنه اكتشف منذ اللحظة الأولى أنه أصبح رهين الحبسين (القصر والجماعة)، وأنه مجرد مسئول عن ملف الرئاسة فى مكتب الإرشاد، فتبخرت كل أحلامه فى الأسابيع الأولى، وصار كل يوم يفقد أرضاً جديدة، حاصره الفشل وفقد المصداقية، وأحاطه الغضب من كل جانب، فلم ينجح فى توفير الأمن للمجتمع لأنه فشل فى تأمين نفسه، حين يخرج من قصره هرولة، ويجرى بعد الصلاة بجوربه دون حذاء.
وتغادر عائلته مسكنها فى الزقازيق خوفاً من حصار الغاضبين، وكذلك دماء الشهداء التى تسيل يومياً بفعل القرارات التى يصدرها بالنيابة عن الجماعة، أو تصدرها الجماعة نيابة عنه، يتلقى كل يوم سيلاً من الهجوم والتقريع والسخرية الموجعة التى تفقده الهيبة، تأتى الأيام سوداء كقرن الخروب على الشعب والدولة وعليه أيضاً، تصم أذنيه -يومياً- هتافات الثائرين «الشعب يريد إسقاط الرئيس» كل ذلك يحدث بينما الرجل القوى ابن المنصورة مختبئ، لا ترى وجهه لكنك ترى كل يوم أفعاله وأوامره ونواهيه، وكان آخرها قتل المتظاهرين وسحلهم فى جمعة الخلاص، ويبدو من خلف الستار كأنه يحرك الرئيس ورجال القصر بخيوط عرائس الماريونيت.
وأنا من موقعى كشرقاوى اقترب من الدكتور كثيراً، وعرف حجم بساطته وحسن نواياه، لا أريد له ولا أريد لى أيضاً أن تظل تهمة (العبط الشرقاوى) تطاردنا على مدى الزمان، أقول له بصدق: لقد انتقدتك بشدة وبحدة كمسئول وما زلت مؤمناً بأن وجودك فى الاتحادية يمثل خطراً على مصر وعليك، أدعوك -بمنتهى الإخلاص- للرحيل من القصر طوعاً لا كرهاً لتعود إلى العدوة القرية الصغيرة الخجولة الوادعة على طريق الزقازيق ههيا.