لا يمكن -وما كان ممكناً- أن تخطو أمة للأمام وتحقق تقدمها وحضارتها دون أن تبصر عيونها الطريق الذى ستسير فيه، وما عيونها غير مفكريها وفلاسفتها وعلمائها فى شتى العلوم الذين يسبقون بعلمهم خطواتها بخطوات ويجهزون الشعب بالعلم المتقدم للعمل. كلما تعددت ونضجت عقول الأمة تحسنت حياة مواطنيها المادية والمعنوية.
أكان ممكناً أن تخطو مصر خطواتها نحو مشروع التقدم دون بعثات حاكمها المختار محمد على منذ مائتى سنة تقريباً لأوروبا، أو كان ممكناً أن تقام هذه الصناعات وتلك العلوم دون العلم الذى حصّلته البعثات التى أرسلها فجاءت تعمل بهذا العلم فى الواقع المتخلف؟
لقد فتحت كتابات ونصائح واستخلاصات رفاعة الطهطاوى عما رآه فى باريس من تقدم مادى وقانونى ودستورى وأخلاقى الباب لمشروع فكرى مصرى ومن ثم عربى للتقدم، ولذلك ما إن تم إغلاق المدارس وإيقاف البعثات بعد وفاة محمد على حتى انتكست تلك النهضة التى تحققت وكنا نسبق بها اليابان التى بدأت نهضتها مع وصول الإمبراطور «ميجى» للحكم ستينات القرن التاسع عشر.
يبدو أن «ميجى» أخذ شيئاً من مصر «محمد على»، فقد أرسل بعثات لأوروبا مرت أولاها بمصر ونظرت تجربة محمد على وانبهرت بالتلغراف الذى لم يكن باليابان!
ولكن بعثات «ميجى» للغرب كانت بالآلاف من الطلبة! كما استقدم آلافاً من المدرسين، ربما لم يواجه صعوبات كتلك التى واجهها محمد على مع مشايخ الأزهر والمماليك!
ثم كان لديه أيضاً «فوكوزاوا» الذى كان يماثل رفاعة الطهطاوى من حيث أثرهما فى البلدين، حيث كان «فوكوزاوا» هو الخبير الأول أيضاً فى التعليم وكتب عشرة مجلدات عن الأشياء التى شاهدها فى أوروبا ونقل الكثير من الفكر الغربى المتقدم لبلاده وانتهى أمره بأن حول المعهد الذى أنشاه إلى جامعة قبل أن ينتهى القرن التاسع عشر، بينما نُقل الطهطاوى الذى صار خبير التعليم بعد عودته أوائل القرن 19 وبعدما كان إماماً دينياً وأخلاقياً للطلبة المبعوثين لفرنسا، إلى السودان كمدرس إلزامى بعد وفاة محمد على!
كان «ميجى» يثق فى الطلبة اليابانيين ويختارهم أصلاً من ذوى التفوق والأخلاق والعقيدة القوية خوفاً من أن ينقلوا القيم الأوروبية المناقضة للثقافة اليابانية بعد عودتهم رغم أن «ميجى» ألغى تماماً المدارس الدينية فى معرض تطويره للتعليم وأحل محلها مدارس حكومية ذات تعليم موحد فى الدولة كلها، بينما لم يفعل ذلك محمد على وإن أقام مدارس أهلية وظللنا فى صراع أجّجه بعده عبدالناصر بتطوير الأزهر وخلط التعليمين الدينى والمدنى.
اتبع «ميجى» النظام الفرنسى فى التعليم والشرطة والنظام الألمانى فى الإدارة الحكومية، كما أخذ أيضاً الدستور الألمانى الذى وجده أكثر ملاءمة من الفرنسى والأمريكى الأكثر تحرراً أو الأكثر تقليصاً لسلطة الإمبراطور رغم أنه وسّع كثيراً قاعدة الحريات للشعب وسمح بظهور الأحزاب الفاعلة، وهو ما لم يفعله محمد على الذى منح هو وخلفاؤه -كمكافآت ولاستمرار الولاء والخضوع وتكوين طبقة- إقطاعيات ومساحات من الأراضى لقواده وأتباعه ومشايخه وأمعن فى جباية وتحصيل الأموال لدرجة أن الفلاحين سموه «ظالم باشا»، فى حين ألغى ميجى الإقطاعيات العسكرية وأنهى حكم الطبقة العسكرية خلال سنوات ثمانية وجرّد الساموراى من امتيازاتهم وملّك الفلاحين الأراضى الزراعية ونواتجها، فصاروا طبقة قوية، ولذلك قام ذوو المصالح المتضررة بمحاولاتَى انقلاب ضده فى 1874 و1877. لقد أخرج «ميجى» اليابان من عزلتها عن العالم عدة قرون ثم إنه أنهى عزلة شعبه عن بعضه بالإصلاحات السياسية.
الفارق الجوهرى فى التجربتين هو المكاسب الشعبية التى تحققت بتقليص النفوذ العسكرى الإقطاعى والساموراى فى اليابان وبسلوك طريق العلمانية فى التعليم صريحاً بإنهاء المدارس الدينية وبدستور متقدم وحريات سياسية وأحزاب.
هذه دلائل الصدق فى التجربة، المكاسب والمنافع والحرية للشعب أولاً الذى سوف يحمى الإنجازات ويدفعها للأمام دائماً ويمنع القفز عليها ويهدها كما حدث بعد وفاة محمد على وعبدالناصر.
إنجازات دون الشعب تظل بلا ضمانات!.