ليست مجنونة مطلقا؛ لو كانت مجنونة لدمّرت كل شىء فى ثوْرة جنونها ولأكملت المشهد بذبح نفسها، لكنها بعد ذبحها طفليها، يوسف ومريم، خرجت بهدوء وكامل وعيها لتدبر قصة مُختلقة تساعدها على الهرب من العقوبة أدت فيها ببراعة دور الأم المفجوعة بمشهد فلذتى كبدها المذبوحين؛ صرخت وانتحبت كأنها مصدومة بالمفاجأة وحولها الجيران مُصدّقين هول مُصابها، (وهل كان بإمكان مخلوق أن يتشكك لحظة فى صدقها؟)، أبلغت البوليس وشرع الجميع فى البحث عن الجناة بمؤشرات تكهنات «منطقية» ليس بينها احتمال أن تكون الجانية يد آثمة لــ«أم» قاتلة، وذهبت بعدها إلى بيت أسرتها لكنها، كما تقول «من ساعتها مش عارفة أنام»، (يا سلام! حضرتها كانت تود أن تنام!)، لم تعترف إلا بعد حصار الأدلة لتضيق دائرة الاشتباه حولها فانهارت وقالت لغوا كثيرا عن مبررات فعلتها الشنعاء متسائلة: «حد يقتل عياله؟»، (نعم! أنت!).
المرعب فى هذه الحادثة أنها، فى جانب منها، تُلخّص ما يحدث الآن فى طرقات بلادنا وميادينها ومنصّات فضائياتها، (أينعم وإعلامها)، مهما أغلظ الجميع القسم بــ(ثلاثة بالله العظيم)، أنهم أبرار مخلصون يسعون نحو «إنقاذ» مصر متسائلين: «حد يقتل بلاده؟»، والرد بلا تردد: «نعم! أنتم!»، جميعكم بلا استثناء إلا الذى نطق بفطرة الأب الحانى والابن البار وهو، بلا تردد كذلك، الشهيد الحى الشاهد «حمادة صابر»، قائلا بعزّة وفداء: «أنا كنت عاوز البلد تِهدى!».
«حمادة صابر» ليس متنازلا عن حقّه، ولا خانعا لقوة البطش القاتلة، ولا كاذبا ولا مُتراجعا، ولا أيا من التفسيرات التى انهالت من كل حدب وصوب، متسابقة فى الجَزّ على الأسنان، العمياء عن رؤية ما رآه «حمادة صابر» فى جملته البسيطة التى تعنى؛ أريد بلدا «وطنا حاميا»، لا «خناقة» شوارع و«شرشحة بلكونات» تُشحذ فيها السنج والمطاوى وتُسن سكاكين الألسنة بسموم الثعابين والعقارب وحشرات صناديق الأذى المكبوتة، التى أينعت بفضل أيد فتحت لها الغطاء ليتحول المشهد إلى أدغال وأحراش يتعاظم فيها السحل والتحرش ويتفاقم بها الإفساد وسفك الدماء تحت دعاوى إنقاذ خائبة الرجاء.
حمادة صابر يريد استقامة الأمور حتى تستقر قوّة الحق فوق الجبروت، وفوق المشاحنات، وتسقط أقنعة القتلة الداهية؛ بحصار الأدلة إلى أن تضيق حولهم دائرة الاشتباه، حتى يتبيّن الخبيث من الطيب، ويهلك من يهلك عن بيّنة ويحيا من يحيا عن بيّنة.
ويا أيها الصائح بعنوان «أولئك هم الكفرة الفجرة» هتافك التكفيرى هذا لن يساعد حمادة صابر بشىء، فكن عاقلا، (فالمسألة ليست فش غِل لترتاح سيادتك)، وخذ نفسك إلى سبيل الحكمة، لو أنك تنشد «الإنقاذ» حقا وصدقا ويقينا، وقد سأل سائل الإمام على بن أبى طالب عن صفة من قاتلوه هل هم من الكفار؟ قال لا، هل هم من المنافقين؟ قال لا؛ بل «هم إخوة بغوا علينا»، مُستحضرا هداية الآيات الكريمة من سورة الحجرات: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)»، صدق الله العظيم.
* تنويه: نستدل كذلك من الآيات الكريمة هذه المعلومة «إنما المؤمنون إخوة»، بما يعنى أن «أخوّة» المؤمنين ليست اختراعا لجمال الدين الأفغانى كما تصوّر «أخ» من الكتّاب!