«شرط الحب، محو الشرط».. أما بعد:
لكل إنسان أم أُولى ولدته، وأم ثانية وُلد على أرضها. هل يُحب الإنسان أمه لأنها أفضل النساء حالاً، أو أغنى النساء، أو أجملهن؟!.. هو يحبها لسبب آخر ووحيد: لأنها أمه. ينتمى إليها ويُخلص معها ويحملها فوق رأسه بلا شروط، لهذا السبب فقط، لا لأى شىء آخر.
ولدتُ أحب هذه الأرض، دون شرط. وكبرتُ على حب هذه الأرض، دون شرط. لم أشترط على أمى، ولم أشترط على وطنى. المقايضة فى الحب تُفقده قيمته. كلاهما عندى واحد صحيح، لا فرق بين الأم التى أنجبت أو التى آوت. أحببت أمى وهى سيدة بسيطة، على قدّ حالها، لم تملك حساباً بنكياً ضخماً ولم تضع فى المكتبات شهادة دكتوراه أو ماجستير، ولم تكن يوماً ذات نفوذ أو سلطة. أحببتها ليس تفضّلاً منى، ولا لأى سبب سوى أنها: أمى، وأننى: بنى آدم، لحم ودم وروح!
نحبُ وطننا من هذا الفهم، وعلى هذا الأساس. نحبه سواء كان فقيراً أو غنياً، إذا أعطانا أو لم يعطنا شيئاً، ضعيفاً متعباً منهكاً منهزماً أو قوياً شديداً متماسكاً يفخر بالنصر، ثائراً متمرداً أو مستقراً صبوراً، نُحبه على كل حال، مثلما نحب هذه السيدة التى نخرج إلى الدنيا من رحمها، نحبها وهى شابة عفيّة تُنجب، وهى أم عاقلة تُربى وترعى، وهى عجوز تجلس على فرشتها البسيطة دون أن تُقدم أو تُؤخر، لكنها مع ذلك تظل محتفظة بقيمتها فى قلوبنا، ننحنى على رأسها نُقبّلها، نرتمى فى حضنها، نمسح على يدها، ونطلب منها دعوة.
فى السياسة، قد يكون هناك مائة سبب للتذمُّر، وفى الاقتصاد، قد يكون هناك ألف سبب للغضب. لكن الوطن فوق السياسة والاقتصاد، وقبل الحكومة وقبل معارضيها، وخارج دائرة السلطة والثورة معاً، هو شرف الإنسان ودليل إنسانيته وانتماؤه وولاؤه. هو قصيدة شعر أولى فى حياة شاعر بدأ منها، وقصيدة شعر أخيرة فى حياة شاعر يختم بها. لا يهرب امرؤ من قدره، والوطن قدرنا الذى لا نهرب منه ونرضى بحلوه ومره، هو الأرض والأهل وخلق الله الذين نعيش وسطهم، الوشوش التى نراها فى الطرق، البيوت التى نحفظها طوبة طوبة، أحلام الصبا وطيش البلوغ وتمرُّد أوائل العشرين واتزان منتصف العمر وحكمة ما بعد الستين عاماً. هو أمسنا ويومنا والغد الذى ستدق ساعته بعد قليل. كيف يهرب إنسان من كل هذا؟ وكيف يُقرر أن يحيل كل هذه المعانى إلى معاش مبكر، أو يوافق على صياغتها فى نص ركيك ساخر يثير به ضحكات زملائه، بينما هو ينفث دخان سيجارته غير منتبه إلى هذا الجُرم الذى يقترفه!
هل تتحول الأم إلى «نكتة»؟! من يقبل ذلك؟! ومن تهون عليه أمه إلى هذا الحد الوقح؟!
هل تتحول مصر إلى مادة ساخرة فى «قعدة قهوة».. إلى «كوميك» على صفحة «فيس بوك».. إلى وجبة طعام سريعة نأكلها ونهضمها ونشرب بعدها كوب ماء، ثم ننسى فى اليوم التالى: ماذا أكلنا؟!.. هل تتحول مصر إلى نرد نلعب به فى صالة قمار، فنواصل اللعب إذا ربحنا ونغادر الصالة مسرعين إذا خسرنا، ونحن نتمتم باللعنات؟!
من تانى: الوطن أم، والأم وطن، وأى إنسان -إلا حثالة الأرض- يُشرّفه أن يجلس تحت قدميها، سواء كان تحت القدم.. عسل أو شوك!