«مات جمال»، 47 عاماً مرت على اليوم الأسود. لكنّ السؤال لا يزال قائماً: هل مات فعلاً؟
لا أقصد ذلك الجسد الذى يرقد فى ضريح صغير بمنطقة كوبرى القبة وسط صخب القاهرة، أسألُ عن جمال آخر يعيشُ بيننا وفينا، قدرُنا الحُلو والمُر الذى لا نفر منه، نفسُنا الأمارة بالسوء حيناً، المطمئنة الراضية المرضية أحياناً أخرى، نفسُنا التى نقبلها على كل حال وبكل ما فيها.. خيراً وشراً. جمال النصر والفرح والهزيمة والانكسار والوجع. جمال الثورة وربما الثورة المضادة، جمال البداية السعيدة المتحررة المتفائلة القوية المقاتلة، ونهاية الألم المسكينة الحزينة المصحوبة بنوبة قلبية أفضت إلى الموت!
على نحوٍ ما.. كلُنا جمال عبدالناصر.
نحن الرقص فى البدايات، ومآتم النهاية. صادقون فى فرحتنا جداً، وصادقون فى أوجاعنا جداً. نحن ضجيجُ مصانع الغزل والنسيج، ونارُ مصانع الحديد والصلب، والقناة المؤمَّمة والخمسة أفدنة لكل فلاح، ونحن كذلك هزيمة 67 وإدارة الفرد وعزوة الشِلة والعباءة الجبس الخانقة والصوت الواحد والفكر الواحد والرجل الواحد. عشنا الخمسينات والستينات من بعدك، لكن ما بعد التجريف والسرقة والنهب. خمسينات وستينات ما بعد الانفتاح غير الاقتصادى والخصخصة غير الوطنية، خمسينات وستينات جديدة على الموضة الأمريكية الحديثة.
لا يمكن إعادة تجارب الماضى، هذا صحيح. لكن التجربة لم تنته بعد، حتى تُعاد أو نبدأ فى طريق جديد. ما زلنا نسير فى نفس التجربة ونفس الطريق، لكن التشوهات كثرت طيلة هذه المدة، والعباءة ضاقت، والفساد أصبح أكثر قوة وانتشاراً، وكل محاولات الإصلاح التى جرت وتجرى ما زالت عاجزة عن إحداث أى تغيير جوهرى، نحو 5 عقود لم نأخذ يميناً أو يساراً، فقط نوغلُ فى مزيد من الوحل.
نحن أبناؤه، توارثنا منه كل شىء، شجاعته، ثورته، حبه، صدقه، صوته العالى، وغضبه وسقطاته وأخطاءه المفجعة. جاءتنا التركة على هذا الحال، ثم تكالب عليها الفسدة واللصوص والأنصاف والأرباع، فسرقوها ونهبوها وحلبوها حتى آخر مصنع وآخر فدان أرض.
أضعنا تركتك يا جمال، أضعنا وجهك الجميل، ولم يبق لنا منك بعد ما يقارب نصف القرن إلا الأخطاء، ونوبة القلب الأخيرة.
هل تسامحنا؟.. هل نسامحك؟.. مَن يسامح مَن؟.. لا أعرف!.. وأنت لا تعرف!.. على أرجح الأمور نحن واحد ولسنا اثنين. أنت شائعٌ فينا إلى درجة كمال، ونحن شائعون فى تجربتك. ما هذا التداخل الكبير؟.. أبناؤك نحن لحماً ودماً ووجداناً وتجربة ومصيراً. لكننا لم نتعلم من أخطائك، حتى فى أدق تفاصيل حياتنا الشخصية، نرتكب نفس الأخطاء بنفس الحمق. ولم نحافظ على ما أنجزت لنا ولهذه الأرض، حتى فى أدق التفاصيل نهدر ما أنجزت.
نحن أنت يا جمال، الخالق الناطق، لكن بعد ألف هزيمة. نحن أنت يا جمال، بعد ألف نوبة قلبية. أنت نائمٌ فى موتك، ونحن نائمون فى غفلتنا المديدة، نوم المنتصر الذى كسرته الهزيمة أنت، ونوم الهارب الخائف الضعيف نحن.