مليار و200 مليون نسمة، أعراق وطوائف شديدة التنوع، لغات كثيرة ولغة الاستعمار القديم (الإنجليزية) قاسم مشترك، نظم اجتماعية معقدة ومعدلات فقر وأمية وفساد مرتفعة، كل هذا والهند ديمقراطية ناجحة واقتصادها ينمو بمعدلات متوسطها خلال السنوات الماضية 10 بالمائة، ولديها بيئة جاذبة للاستثمارات من الشرق والغرب وتحرز تقدماً تكنولوجياً مبهراً وبها صناعة لنظم المعلومات تعد من الأكثر تطوراً فى العالم.
شاركت يومى الجمعة والسبت الماضيين فى المنتدى الاستراتيجى «الهند اليوم»، الذى تنظمه سنوياً مؤسسة الهند اليوم الصحفية ويشارك به صناع القرار والساسة والبرلمانيون ومجموعات المستثمرين وأصحاب الأعمال والمجتمع الإعلامى. شاركت بمداخلة عن فرص التحول الديمقراطى فى مصر واستفدت كثيراً من النقاش مع الحضور بشأن الإطار الدستورى والقانونى الناظم للبناء الديمقراطى واستراتيجيات التعامل مع أحزاب ذات مرجعيات أيديولوجية ودينية وعرقية ينزع بعضها للعنف وتفرض تحديات متتالية على الديمقراطية.
إلا أن الفائدة كانت أعظم فى جلسات النقاش التى تناولت الشئون الهندية وشهدت سجالات عميقة بين ممارسى السياسة وبرلمانيات وبرلمانيين من ولايات هندية مختلفة (للهند نظام فيدرالى برلمانى) وتكنوقراط يديرون مؤسسات الدولة التنفيذية والإدارية. سجال أول مهم دار حول تأثير النخب السياسية التقليدية (كأسرة غاندى) ونخب الاقتصاد والمال والأعمال على صندوق الانتخابات وحدود تمثيل برلمانات الولايات والبرلمان الفيدرالى للقطاعات الشعبية المختلفة. وبينما دافع ممثلو حزب المؤتمر (حزب المهاتما غاندى ثم ابنته أنديرا وحفيده راجيف ثم الآن زوجة الأخير سونيا وابنها راؤول) عن نزاهة صندوق الانتخابات وعدم سطوة النخب عليه، وجه ممثلو الأحزاب الإقليمية واليمينية انتقادات واسعة وتبنوا نظرة مفادها هيمنة النخب التقليدية على صندوق الانتخابات من خلال شبكة فساد ممتدة ومؤثرة فى السياسة ومؤسسات الدولة وفى القطاع الخاص.
مواجهة الفساد السياسى والمؤسسى هذا كانت فى قلب سجال ثانٍ بين الساسة والبرلمانيات والبرلمانيين وقدم به فينود راى، المحاسب العام للهند، تحليلاً رائعاً لمواجهة الفساد ارتكز إلى تدعيم مبدأ حيادية مؤسسات الدولة
التنفيذية والإدارية وغل يد الأحزاب عن تعيين ممثليها بالمؤسسات هذه، وكذلك إلى إرساء تقاليد قانونية جديدة للشفافية والمحاسبة وكشف وتوثيق سوء استغلال المنصب العام. سجالات أخرى تعلقت بتمثيل النساء والشباب فى الحياة السياسية ومؤسسات الدولة وبدور الأحزاب الأيديولوجية واليمين الدينى (الهندوسى) فى السياسة وسبل الاحتواء السلمى لتطرفها وطائفيتها وعنفها دون إقصائها لشعبيتها الواضحة ودون تهديد الإطار الدستورى والقانونى الهندى الذى يفصل بين الدولة والدين.
فى جميع السجالات هذه كنت أمام مجتمع يمارس الديمقراطية ويواجه تحدياتها الكثيرة ونواقصها الأكثر دون تنازل عن الآليات الديمقراطية أو عن مدنية الحياة السياسية، بل تسعى قواه المختلفة بدأب واضح لتحسين الممارسة الديمقراطية والحد من أمراض الفساد وهيمنة النخب التقليدية والعنف ومحدودية كفاءة مؤسسات الدولة التى تعانى منها ودون تورط فى تبرير لعنف الدولة أو العنف الشعبى. فى جميع السجالات هذه كنت أمام مجتمع ينمو اقتصادياً وتقدم به القطاعات التكنولوجية والمعلوماتية خبرات نجاح وتقدم مبهرة ويعود إليه الكثير من الكفاءات البشرية المهاجرة أو ذات الأصول الهندية للإسهام فى «نهضة حقيقية»، كل هذا على الرغم من ارتفاع معدلات الفقر والأمية والعنف الأهلى. الهند العظيمة تنظر شرقاً لتتعلم من عمالقة آسيا الآخرين، ونحن علينا النظر شرقاً إلى الهند لنتعلم كيف يمكن لنا التأسيس لديمقراطية تتجاوز نواقصها وتتعامل عبر نخب رشيدة مع تحديات البناء الديمقراطى.
عن العلاقات الهندية المصرية وفرص التعاون مع بلد العجائب أكمل بالغد إن شاء الله.