على مدار اليومين الماضيين، عقدت ببيروت اجتماعات وورش عمل لبعض الليبراليين العرب تمثل عنوانها العريض فى مناقشة التحديات المجتمعية والسياسية والانتخابية التى تواجه أحزابهم وتياراتهم. وقد حددت فى مداخلة لى خمسة تحديات رئيسية تواجهنا كليبراليين فى المغرب وتونس ومصر وفى بلدان عربية أخرى، على اختلاف أوضاعها وتحولاتها الراهنة.
التحدى الأول هو التحديد الواضح لأولويات وبرامج الأحزاب والتيارات الليبرالية بشأن الديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية والنمو المجتمعى الشامل. هنا يتعين على الليبراليين تحديد أولوياتهم وبرامجهم بإيجابية وبمضامينهم وبمفرداتهم وبلغتهم هم بعيداً عن الارتكاز إلى نقد أو تفنيد طرح الأحزاب والقوى الأخرى، خاصة تلك المنتمية إلى مساحة اليمين الدينى.
التحدى الثانى هو التوقف عن التورط فى نقاشات «الهوية» و«القابلية المجتمعية» التى استنفدت الكثير من قدرات وطاقات الليبراليين خلال العامين الماضيين. لا تحتاج أحزابنا أو تياراتنا، فى مساعيها لبناء هوية واضحة، إلى المزيد من التشديد على انتمائنا لمجتمعاتنا العربية ولا على احترامنا لمنظومات القيم المرتبطة بالأديان ولا على غياب التناقض بين أولوياتنا وبرامجنا وبين تلك المنظومات. فقط ينبغى علينا الدفاع عن مبادئ الحريات الشخصية والعامة، وحقوق الإنسان، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون، واقتصاد السوق الملتزم بالعدالة الاجتماعية، وتداول السلطة والدولة المدنية باتساق وقوة وتثبيت فهمها الصحيح كمبادئ تتوافق مع الفهم المعتدل لمنظومات القيم الدينية وتفنيد اتجار اليمين الدينى بها لأهداف سياسية وانتخابية. لسنا فى احتياج أيضاً لإضاعة المزيد من القدرة والطاقة فى تفنيد مزاعم عدم قابلية مجتمعاتنا للفكرة الليبرالية أو الادعاء الزائف بغربتنا كليبراليين فى بلدان العرب. فالليبرالية العربية متجذرة ومتجددة فى آن واحد، فقط إرهاصاتها السياسية الحديثة هى التى تتطور الآن بسرعة بعد عقود من الركود الاستبدادى، والأجدر بنا هو أن نوظف قدراتنا وطاقاتنا باتجاه تعظيم الحيوية والقوة المجتمعية والسياسية والانتخابية لأحزابنا وتياراتنا.
وهنا يأتى التحدى الثالث متمثلاً فى تطوير البناء التنظيمى والعمل مع القواعد الشعبية للأحزاب وللتيارات الليبرالية لتجاوز خرافة سيطرة اليمين الدينى على الشارع وصندوق الاقتراع، وكذلك لدحض ادعاء نخبوية الليبرالية. تطوير التنظيم باتجاه الالتزام بالديمقراطية الداخلية والشفافية والفاعلية، وعلماً بأن بعض أحزاب اليمين الدينى كانت أسبق فى ممارسة الديمقراطية الداخلية وتنظيم انتخابات لتشكيلاتها القيادية، يجب أن يشكل أولوية كبرى لنا كليبراليين فى ظروف مجتمعية وسياسية قاسية تحفز أحياناً على تجاهل مقومات البناء الحزبى الديمقراطى. تماماً كما يتعين النظر إلى العمل مع القواعد الشعبية مجتمعياً وسياسياً وتنموياً وخدمياً دون استغلال رخيص لحوائج الناس وعبر قياسات الرأى العام المتواصلة، من داخل المؤسسات ومن خارجها ومن مواقع السلطة (حين نصل إليها) كما من مواقع المعارضة، كضرورة لتمكيننا من تقديم الدور المجتمعى والسياسى الذى نريد وتنتظره بلداننا.
التحدى الرابع هو إدارة العلاقة بين الأحزاب والتيارات الليبرالية وبعضها البعض على نحو يتجاوز واقع التشرذم الراهن ويعظّم من قدراتها التنظيمية والبشرية والمالية بغية المنافسة السياسية والانتخابية الأفضل. تعدد أحزابنا وتياراتنا حقيقة ترتبط بواقعنا الراهن وليست بكارثية التداعيات طالما سننجح فى إدارة علاقاتنا فى أطر تنسيقية وتعاونية، وطالما سنتعلم من دروس صندوق الاقتراع وتوجهات الرأى العام خلال العامين الماضيين ونفتح الأبواب تدريجياً لمساعى الاندماج/الانصهار وبناء التحالفات.
التحدى الخامس، والأخير، هو إدارة العلاقة بين أحزابنا وتياراتنا وبين أحزاب اليمين الدينى واليسار فى إطار التزام بمبادئ الليبرالية، وبعين على الشراكة الوطنية، وبإدراك لتنوع مستويات العلاقة مع اليمين الدينى واليسار من تقارب المواقف أو تناقضها مروراً بالتنسيق السياسى والانتخابى أو الابتعاد عنها إلى التعاون والتحالف أو الصراع والتنافس. لا نملك كليبراليين وصفة جاهزة لإدارة العلاقة مع اليمين أو اليسار وتتنوع الخبرات على امتداد البلدان العربية، بل وداخل البلد الواحد. فقط نملك مبادئ جوهرها الحرية والحقوق وتكافؤ الفرص وتفضيل اقتصاد السوق الملتزم بالعدالة الاجتماعية وسيادة القانون والمواطنة، وانطلاقاً من قرب أو بعد الأحزاب الأخرى عنها ينبغى علينا أن ندير العلاقة معهم، كذلك استناداً إلى مصالحنا التكتيكية والاستراتيجية التى قد تفرض علينا تنسيقاً مؤقتاً أو تحالفاً جزئياً أو تعاوناً مناطقياً أو ائتلافات انتخابية وسياسية دون مساومة على المبادئ.