عانت مصر الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، فضلاً عن الحجر على الحريات وتجريف الوطن من الكفاءات والخبرات طوال سنوات الاستبداد السياسى والانسداد الديمقراطى فى عهد «مبارك» ومن بعده عام حكم الإخوان، مما تبلور فى تراجع مستوى جودة الحياة لقطاع كبير من المصريين وارتفاع نسبة المصريين تحت خط الفقر إلى نسبة غير مسبوقة من السكان، خصوصاً فى ريف وصعيد مصر. كذلك انتشرت المناطق العشوائية فى محافظات مصر ومدنها وأحيائها التى كانت راقية.
من جهة أخرى، فقد تآكلت البنية التحتية للوطن لدرجة الانهيار خلال فترة الانحطاط السياسى وتحالف السلطة مع أصحاب الأعمال والأموال، وتفاقم الانهيار فى مستويات الخدمات العامة والخاصة؛ التعليم والصحة والنقل، كما تراجع دور العلم والبحث العلمى فى رسم السياسات واتخاذ القرارات وكانت العشوائية ومنطق التجربة والخطأ هما الأساس حتى فى أكبر المشروعات التنموية، وتكرّر حدوث الأزمات فى توفير السلع الضرورية لحياة الناس.
وقد أسهم فى تردى الأوضاع العامة انتشار الفساد على جميع المستويات وفى جميع مجالات الحياة وتكاثر المفسدين بين كبار المسئولين فى الدولة وغيرهم من المرتبطين بعلاقات وطيدة مع الحكام فيما قبل 25 يناير، وشهد المصريون صوراً فجّة لاستغلال الأوضاع القائمة من جانب أهل الحكم وأنصارهم فى نظم الحكم السابقة، مع تضاؤل مشاركة المجتمع المدنى وممثلى طوائف وشرائح الشعب فى توجيه السياسات والقرارات المصيرية فى مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
كما تم فى ما قبل ثورة 25 يناير تبديد الموارد الوطنية غير المتجدّدة وفى مقدمتها الغاز الطبيعى، والتخلص من معظم شركات قطاع الأعمال العام بأسعار متدنية تحت شعار «الخصخصة» والتحول إلى اقتصاد السوق، وتم استنزاف الموارد الوطنية بأساليب تقليدية لا تراعى متطلبات الحفاظ عليها وتوظيفها فى أحسن المجالات ذات القيمة المضافة الأعلى، وكان القصور شديداً فى البحث عن مصادر جديدة ومتجدّدة للموارد الوطنية، وإغفال الكشف عن الفرص المتاحة للتنمية المستدامة، وكذا التقصير فى استثمار ما يتضح من تلك الفرص. وانصرفت الدولة عن تنفيذ برنامج وطنى طموح وشامل لتنمية وتعمير سيناء، ليس فقط التزاماً باعتبارات الأمن القومى، ولكن تحقيقاً للضرورة الملحة التى طال إهمالها، وهى الخروج من الوادى الضيّق إلى الآفاق الرحبة.
وكان من أبرز سمات نظم الحكم السابقة، تقليدية تشخيص المشكلات الوطنية، وانحصار الحلول الحكومية فى إجراءات قصيرة الأجل تتعامل مع ظواهر المشكلات أكثر مما تهاجم أسبابها الجذرية، وغياب استراتيجية واضحة لتنمية المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر وعدم وجود آليات فعّالة لتمويلها وتيسير قيامها، خصوصاً فى الريف المصرى والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
وكان التعامل غير العلمى والعقلانى مع الثروة المحورية للوطن، وهى الثروة البشرية هو السمة الغالبة على سياسات الحكم فى مصر، وكان تعبير «المشكلة السكانية» هو المبرر الرسمى للفشل الحكومى فى تحقيق مطالب المواطنين، مما أدى إلى إهدار فرص تنمية الإنسان المصرى وتوظيف قدراته وإطلاق طاقاته الخلاقة، إذ انحصر التفكير الرسمى فى اتهام الثروة البشرية بأنها قوة استهلاك، وتم إغفال طاقاتها الابتكارية الخلاقة وإمكانياتها فى استثمار فرص التنمية المستدامة بالفكر والعلم.
وتفاقمت مشكلات الشباب -وهم النسبة الأكبر من السكان- وانتشرت البطالة بينهم وتصاعدت احتمالات زيادة معدلاتها فى الفترات المقبلة بسبب فقدان عدد كبير من العاملين وظائفهم بسبب بيع شركات قطاع الأعمال وتطبيق نظام المعاش المبكر وتراجع معدلات خلق وظائف جديدة بسبب تراخى الاستثمارات، كما أسهمت فى زيادة نسبة البطالة وعودة كثير من المصريين العاملين فى الخارج، نتيجة الأزمة المالية العالمية وتأثيراتها على منطقة الخليج وغيرها من الدول العربية التى كانت تستوعب أعداداً كبيرة من المصريين. كما تدنّى مستوى العمالة الحرفية والمهنية وغابت منظومة متكاملة لتدريب ورفع كفاءة العامل المصرى، وافتقدت الجدوى من مئات مراكز التدريب ومؤسسات التعليم الفنى.
وكان مما زاد فى حدة مشكلات المواطنين من أصحاب الدخول المحدودة والفقراء، قصور شبكة الضمان الاجتماعى، وغياب نظام تأمينى على العمال الزراعيين، بالإضافة إلى مشكلات القطاع الزراعى التى كانت سبباً فى إعاقة تطوير وتدنى إنتاجيته وبقاء الريف المصرى فى حالة الفقر والحرمان.
وكانت انتفاضة المصريين وثورتهم فى يناير 2011، ثم يونيو 2013، للتعبير عن رفضهم استمرار الأحوال على ما هى عليه بكل ما تحمله من مخاطر التردى والتدهور الوطنى وتفاقم درجة عدم الرضا والسخط بين أغلبية المواطنين الذين لا يحصلون على نصيبهم العادل من ثروة الوطن والدخل الناتج عن استثمارها. ثم كان المنطق الوطنى يطالب بضرورة انطلاق سبيل جديد وغير تقليدى لتطوير الحالة المصرية لتحقيق التنمية المستدامة القائمة على العلم واكتشاف الموارد واستثمار الفرص وإقامة العدالة الاجتماعية وضمان الأمن والسلم الاجتماعيين، وكان لا بد من البدء فى تهيئة الأوضاع السياسية والاجتماعية بما يسمح بالانطلاق لمرحلة إعادة بناء قدرات الوطن.
ولكن من أسف أن جهود التنمية والإصلاح الاقتصادى خلال السنوات منذ 30 يونيو 2013 لم ترتفع إلى مستوى التطلعات لرفع مستويات المعيشة وإنجاز نقلة ملحوظة فى القدرات الإنتاجية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية. كما تعثّرت ثورة 25 يناير، وضلت خارطة الطريق إلى إنجاز التحول الديمقراطى، ولم تزل مصر تعانى من قضايا أساسية وتقليدية، تحرر منها كثير من الدول النامية التى صاحبتنا أو تبعتنا فى مسيرة التنمية.
إن مصر «غنية» بمورد بشرى ضخم يصل إلى ما يقرب من 92 مليون إنسان، منهم نحو 50% فى الفئة العمرية أقل من 15 سنة إلى 44 سنة، فئة العمل والإنتاج. ونحو 12% فى الفئة العمرية من 45 سنة إلى 59 سنة. «غنية» بتكويناتها الشبابية المتطلعة إلى التغيير ومستوعبة لتقنيات الاتصالات والمعلومات الحديثة وقادرة على التواصل الفعّال مع الغير، محلياً وخارجياً. «غنية» بطاقاتها العلمية من أساتذة الجامعات والباحثين فى مراكز البحوث.
مصر «غنية»:
- بما يقرب من عشرة ملايين مصرى يعيشون ويعملون فى الخارج من مختلف التخصصــات.
- بموقعها العبقرى عند ملتقى قارات أفريقيا، آسيا، وأوروبا. ويطل على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. و«غنية» بأرضها وتبلغ 238 مليون فدان، منها أرض زراعية نحو 8.6 مليون فدان (3.6%).
- بمواردها المائية متعددة المصادر، وأهمها نهر النيل.
- بقناة السويس ومواردها الطبيعية، وبمناخها المعتدل بصفة عامة طوال العام، وبالإشعاع الشمسى الذى يمثل مصدراً مهماً للطاقة يمكن استخدامه فى توليد الكهرباء.
- بآثارها وسواحلها وشواطئها المصرية على امتداد البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.
- بالتكوين الحضارى المتميز لشعبها وخصائصه البعيدة عن العنف، برصيدها الثقافى والأدبى والفنى وتجليات المبدعين المصريين عبر سنوات طويلة.
مصر «غنية»، لكن إدارتها تحتاج إلى الانطلاق مسلحة بالعلم والتقنية الحديثة، والديمقراطية. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.