أقباط يتحدّون الإرهاب ويرفضون مغادرة العريش: "لو حد مننا مات مين هايدفنه؟"
صورة أرشيفية
في موقف سيارات العريش الجديد، اصطفت عشرات السيارات، وداخلها حقائب أقباط من العريش، قرروا المغادرة بعد التهديدات التي وصلتهم من إرهابيين، وتعرض بعضهم للقتل، ذهب معظمهم إلى الإسماعيلية، والبعض الآخر إلى القاهرة والصعيد، بينما قرر آخرون البقاء، معتبرين العريش "بلدهم" التي لا يعرفون غيرها.
من أسيوط في جنوب الصعيد، انتقل صابر إلى العريش قبل 20 عاما، وهو رجل بسيط الحال يعمل في الروبابيكيا، يجمعها من المنازل ثم يبيعها مرة أخرى، بالكاد يكسب ما يكفيه يوميا هو وأسرته المسيحية، له ولد و3 فتيات، لا يعنيه ما يجري حوله بشأن اضطهاد المسيحيين في العريش، ما يهمه ألا يترك المدينة الصغيرة أو يرحل عنها إلى أي مكان.
في أحد الأيام، طرق الشرطة باب صابر، للاطمئنان على وضعه وأسرته، وفوجئ الرجل الخمسيني بضباط قسم أول العريش، يحثونه وأسرته على الدفاع عن أنفسهم، حال تعرضهم لأي من أشكال العنف من الإرهابيين، فقرر صابر الانتظار والدفاع عن نفسه وعن مدينته، وعدم الخضوع لأي ابتزاز بسبب دينه، لا تعنيه دعوات الكنيسة المتكررة له بأن يغادر، فهو لن يرحل نزولا عن رغبته.
9 أسر في منطقة واحدة ترفض الرحيل من العريش
9 أسر مسيحية في ذات المنطقة بمدينة العريش، قررت ألا تترك منازلها تحت أي ظرف، يقول حمدي 42 عاما، ويعمل في الخردة، - رفض ذكر مكان منزله حفاظا على أمنه-، إن الإرهابيين أحرقوا بيته ومخزن الخردة الخاص به، ورغم ذلك لم يقرر الرحيل، ولا ينوي، حتى لو عرض عليه المال.
يقول حمدي: "إحنا ماعندناش ولا بيت في الصعيد، إحنا هنا 9 أسر أخوات وولاد أعمام عندنا عمارتين عايشين فيها، منذ 26 عاما، وجدنا في العريش لقمة العيش، فسكننا فيها، ولم نسعى خلف دعوات المسيحيين لترك المدينة"، متابعا: "ربنا والعدرا معانا مش هيصيبنا مكروه".
حمدي: "ربنا والعدرا معانا.. مش هيصيبنا مكروه"
لا يعش حمدي وأقاربه في أمان تام، لكنه يخشى على الفتيات بشدة، ما اضطره لمنعهم عن النزول للدراسة أو الشارع تحت أي ظرف، لأن أي فتاة غير محجبة يعتبرها الإرهابيون "مسيحية"، وتكون هدفا لهم، وفي المقابل لا يترك حمدي الشارع، فطبيعة عمله تجبره على جمع الخردة من الشوارع، يقول إنه سيظل يعمل ويجمع المال لأولاده الـ6 وفتاته الوحيدة وزوجته، ولو وصل الأمر لقتل كل أولاده سينتظر مقتل الأخير ثم مقتله هو، ولن يرحل، "محدش بيموت ناقص عمر.. العريش دي بلدنا، هو في حد يسيب بلده؟، أنا هعيش فيها واموت فيها".
سعيد: "لما حد يتقتل لازم ادفنه واكفنه وامشي في جنازته"
إلى جانب الكنيسة، يجلس سعيد الموجه العام السابق في التربية والتعليم داخل مسكنه، يرفض ترك المدينة الساحلية بشدة، معتبرا أنها أمانه وملاذه، بعد أن ترك المنيا في الصعيد قبل 32 عاما. هدفه الأكبر من الانتظار في العريش رغم تخطيه الـ60 من عمره، هو جنازات أهله وذويه من المسيحيين، يقول بإصرار تام، "لما حد يتقتل لازم ادفنه واكفنه وامشي في جنازته".
الرجل الستيني، ودّع أسرته المكونة من 3 أولاد و3 فتيات جميهم متزوجين، إلى خارج العريش، وينتظر في منزله ليحافظ على بيته وأملاكه من شرور الإرهاب، وليدفن زملاؤه في هدوء: "لو مستنتش جثثهم هتتعفن".
لا يخشى سعيد على نفسه، فهو يرى إيمانه أكبر من هذا الإرهاب، يقول: "الروح مبياخدهاش غير خالقها.. في وقتها ومكانها"، لذلك كان قراره حاسما رغم كبر سنه، فهو يعتمد على معاشه في تدبير حاجته من الأكل والشرب، ويخرج في بيته غير مبال بالتحذيرات من كل الأطراف حوله.
يقول إنه عاد من المستشفى إلى منزله في الحادية عشر مساء، بعد أن ودّع آخر شهيد، واطمأن على تشريح الجثة بمعرفة الطب الشرعي، وتكفينها وتجهيزها للدفن في الصباح الباكر، ويتواصل مع أسرته خارج حدود المحافظة تليفونيا من وقت لآخر، يتونس بكاهن الكنيسة وما تبقى من الخدام في وحدته بعد رحيل كل الأسرة.
ماجد: زوجتي لا تخرج من المنزل دون حجاب إلا للضرورة
استراتيجية أخرى اعتمد عليها ماجد للبقاء بسلام في العريش، وهي "المراوغة"، يعرف تعليمات الأمن جيدا ويلتزم بها تماما، مع آذان المغرب لا يبرح منزله هو أو زوجته، بعد أن ودّع أولاده إلى خارج المدينة خوفا عليهم، بينما هو وزوجته باقيان، "مصالحنا وشغلنا هنا.. بلدنا منعرفش غيرها".
يرفض الرحيل لكنه يخشى الموت، لذا يحاول جاهدا الحفاظ على بقائه وعدم الانهزام أمام الإرهاب، حرصه وصل إلى أدق التفاصيل حتى مشتريات المنزل، فهو يذهب للسوق مرة واحدة كل شهر وفي أوقات مختلفة، لأن المسلحين يعرفون البيوت المسيحية ويرصدونها بدقة وفقا له، وزوجته لا تخرج من المنزل دون حجاب إلا في أضيق الحدود وإلى منزل الأقارب والأحباب فقط.
يثمّن ماجد، الرجل الخمسيني الذي يملك محلا تجاريا، الجهود الأمنية، سواء من جانب الجيش أو الشرطة، أما تلك الأفعال الإجرامية فيقول إنها لا تأتي سوى من "شوية عيال ملعوب في دماغهم"، يستنكر ماجد تلك النغمة المستهلكة من وقيعة بين مسلمين ومسيحيين، فهو يرى الإرهاب يستهدف المسلمين وصورتهم بشكل أكبر من المسيحيين، وما على المسيحيين سوى الصبر على الابتلاء والحفاظ على ممتلكاتهم وحياتهم، فهو يقول "الإرهاب هيزول.. إحنا منخرجش من بيوتنا".
رضا: "حتى لو خلصوا المسيحيين.. أنا عايز أموت هنا"
مهنته أجبرته على الوجود داخل حدود العريش، وارتضى بذلك تمام الرضا، فهو يراه "اختيار الرب"، رضا، الرجل الأربعيني المسؤول عن الصناديق والغسّل في الكنيسة، له مهام محددة لا يستطيع غيره تنفيذها، فهو مكلف من الكنيسة بذلك، ولا يوجد له بديل، لذا فضل البقاء حتى إذا ما طالت يد الإرهاب أحد المسيحيين، يجد في الكنيسة من يغسله ويضعه في صندوق يليق بوفاة شهيد جديد.
يقول رضا إن المدينة تفرغ من ناسها، حتى قداس أمس الأحد كان فارغا، ولم يحضره سوى الكاهن، و3 أشخاص، وما تبقى من خدام الكنيسة بعد أن رحل معظمهم، يستنكر هذا القتل المتعمد على أساس الدين، لكنه يرى أن الصبر على البلاء هو الاختيار الأفضل، ورغم أن المدينة تفرغ من حوله، إلا أنه مقتنع بأن هناك أسر مسيحية لا ملجأ لها وترفض الرحيل وهي مستهدفة وإن قتلت أو طالتها يد الإرهاب يجب أن يكون هو في الانتظار، يقول، "حتى لو خلصوا المسيحيين أنا عايز أموت هنا".