نحتاج فى بعض الأحيان لإعادة نشر ما سبق التعبير عنه، لا من أجل التذكرة بقيمة أو فكرة سبق لنا البوح بها وحسب، ولكن أيضاً عرفاناً لمن علمنا فى الحياة معنى القيمة وأسلوب التعبير عنها. نعم مدينة أنا فى الحياة لكثيرين منحنى البعض منهم ربما الفكرة أو الرؤية، ولكن يبقى دينى الأعظم لوالدى الذى أصر على أن أكون كما أراد حاملة لما آمن به من قيم. فتعلمت منه الانتماء للبيت والدفاع عن الأهل والثبات على المبدأ فى عز الأزمات. ومن هنا جاءت يا سادة مكانة الوطن.
افتقد أبى الولد فى الذرية لمشيئة الله فكنت الرجل الذى لم ينجبه. فمنحنى من قبس رجولته الكثير من المعانى التى ساندتنى فى أيامى وخطوات حياتى. قال: «يا بنيتى إن الحب ليس بالقول ولكنه بالفعل حتى لو لم يصحبه قول فأخلصى العمل». وهكذا يا سادة تعلمت العمل الجاد فى صمت من أجل كل من أحببت، وطناً وزوجاً وابناً وأخاً فى الحياة. لم أهتم بالظهور فى صورة حتى لو كنت من صنعتها. فأنا حاضرة بروح الفعل، راضية بأثر الوجود عن بُعد فهذا يكفى، فالأعمال بالنيات. فحرصت على أن يكون لى ما نويت بينى وبين الله. فهل من منضم جديد؟
وقال أبى ذات يوم فى طفولة مسجاة فى الذكرى: «يا ابنتى لا تبكى على اللبن المسكوب فقد فات ما فات ولن يعود، فكونى يقظة وتعلمى كيف تحمين ما بيدك». وهكذا يا سادة أدركت أن الندم لن يعيد ما أخذه القدر، وأن العائط فى الفائت نقصان من العقل. فقررت الحذر دوماً والتنبه باستمرار حتى لا أبكى. وتعلمت عدم الانصياع للحزن إن شاءت الأقدار ببكاء. فما كان... قد كان وعلينا إكمال المسيرة. فغدنا ما زال أمامنا طويلاً جديداً بحاجة لجهد وإيثار لنتركه بهيّاً لأصحابه.. فهل من منضم جديد؟
وقال معلمى فى طفولتى وهو يمسك بيدى ناظراً بعينى: «الناس معادن فتعلمى انتقاء الأفضل الغالى النفيس، وقراءة الوجوه والمواقف والأفعال وضعى كلاً فى موضعه». وهكذا يا سادة تعلمت اكتناز أصحاب الخلق والفكر والضمير حتى لو على بُعد منى. والابتعاد عن كل خبيث قمىء حتى لو كان بالقرب منهم منفعة، فزادتنى الحياة فضلاً دون فضل منى وعشت حيوات لم أعشِها وخبرات لم تمر بى. وأدركت أن الحياة زائلة مهما طالت فعلقت فى صدرى صورة المشهد الأخير وحرصت على العمل له.. فهل من منضم جديد؟
وزادنى أبى من سعة قلبه فقال يوماً: «امنحى الحياة صكاً للثقة وصكاً للاحترام وصكاً للمحبة وإن خسرت كنوز الدنيا، اكسبى أهلك ومن ينتمون لك. البيت أمانة والأرض أمانة والكلمة أمانة». وهكذا يا سادة اشتريت الغالى من أهل وأرض وعرض، ولم أرضَ عنهم بديلاً، حفظت العهد والكلمة وخضت معارك لا ناقة لى ولا جمل فيها، إلا رفع مظلمة أو قولة حق أو دعم من هو بحاجة. فكان الأعور أعور، وكان المثيب مثيباً، وكان الصديق صديقاً وكان العدو عدواً. فأحببت بلدى واستكنت لها وقدمت ما مضى ومنحت الآتى.. فهل من منضم جديد؟
وقال الذى أوتى الرجولة ذات يوم... أبى: «يا ابنتى اصمدى فى وجه الصعاب فعلى قدر أهل العزم تأتى الشدائد، فقد خُلقنا فى كبد، فإن كان لا بد فعيشى برجولة وافنى بكبرياء». وهكذا يا سادة سارت الحياة فاستسلمت للإبحار بقوة وأدمنت العيش بصمود ومنحت القلب درعاً ضد الخنوع واليأس فى المحن. واستعنت بصبر على أقدار -رضيت أو كرهت- ستصيبنى. فذقت مفازة الصبر ونعمت براحة البال ومنحت للوطن -أهلاً وأرضاً- حياة.. فهل من منضم جديد؟
بنى الحمى والوطن من فيكم يحبها حبى لها؟
قبل أن تجيبوا تذكروا أن الحب أفعال.