كأن وجهها منسوخ من آلاف، وربما ملايين الوجوه السمراء الصعيدية، المنتشرة فى القرى والنجوع.. لا شىء يميزها، غير ابتسامتها الطيبة وملامحها الغارقة فى السكينة، ولكنها امرأة غير عادية.. لا فى تواضعها، ولا فى نبوغها العلمى، ولا فى إمكاناتها العقلية التى جعلت منها «ملكة النانو تكنولوجى» بحسب ما نعاها العالم الدكتور مصطفى السيد، أستاذها والمشرف على رسالتها للدكتوراه فى الكيمياء الفيزيائية.. مديرة مركز النانو تكنولوجى والأستاذ المساعد بمعهد الليزر.. أتحدث عن الدكتورة منى بكر.. عالمة النانو تكنولوجى.. بنت أسيوط التى لم نعرف بها ولا عنها إلا يوم رحيلها إثر مرض نادر أصاب جهازها المناعى.. صحيح نعتها جامعة القاهرة وأكاديمية البحث العلمى، لكن مصرية بهذا التكوين العلمى كان ينبغى أن يكون اسمها وكل من هم على شاكلتها، يجرى على كل لسان، كان علينا أن ننتبه لها فى حياتها ونقدمها للشباب الباحث عن قدوة، بل نسترد بها ما يهتز من قناعات، ونقول له هذه واحدة منا.. عاشت شظف حياتنا وتربت على البتاو ووصلت إلى ذروة العالم واختارت أن تكون بيننا وتصنع تاريخاً.. هناك فاسدون.. نعم، لكن أيضاً هناك مخلصون، فلا تسخروا حين نقول إن مصر ولادة، ولا تشكوا فى قدرتنا والدليل منى بكر.
لكننا لم نفعل.. حتى لم نسمع بها ولا حتى مصادفة.. حتى رحلت، كنا بحاجة لها، «للمعانى» التى تشير إليها.. كنا فى احتياج «للرمز» الحى.. لنكتشفها ونكتشف الخير الكامن فينا.. نحن أمام «حالة مصرية».. بل أيقونة مصرية، نموذج للعمل البحثى العلمى الرفيع، فى دأب وصمت، كان اللافت ليس فقط حجم الإنجاز الذى قدمته للعلم وللإنسانية وهى بعد لم تكمل عقدها الخامس ولكن ذلك التوارى والتواضع لباحثة ولا شك أنها كانت مغنماً لأى جامعة أو قطاع بحثى فى العالم، ولكنها اختارت أن تخدم مصرها ومصرنا، دون كاميرات ولا إعلام ولا مطمع من أى نوع وكأنها راهبة لا تبغى غير أن تخدم فى صمت.. أمضيت ساعات أتنقل ما بين سيرتها العلمية وملامح وجهها البسيط وأستشعر ذنباً هائلاً.. كيف لم نعرفها ولا سمعنا بحجم عملها.. كيف لم نستخرجها من مجاهل الصمت الطوعى ونقدمها مثلاً أعلى لنا جميعاً؟ تتساءلون عن القدوة؟ الدكتورة منى بكر، الصعيدية البسيطة، ابنة جامعة أسيوط التى حصلت على الدكتوراه فى الكيمياء الفيزيائية، من معهد جورجيا بأتلانتا ورفضت إلا أن تعود لمصر لتؤسس مدرسة علمية فى النانو تكنولوجى ولتنجز أربع براءات اختراع مسجلة، إحداها عقار يرفع الهيموجلوبين فى الدم، سوف يحدث انقلاباً فى صحة المصريين (ضحايا الأنيميا) وتؤسس أول شركة مصرية وعربية للنانوتكنولوجى، وتكتب وتنشر ٥٦ مقالاً علمياً، وتشرف على ما يقرب من مائة رسالة علمية ولتحتل مكانة أو ترتيباً على مستوى العالم هو رقم ٢٠، ويسجل لها ألف وثمانمائة مرة تم الاستشهاد أو الاستناد فيها إلى منجزها العلمى.. منى بكر التى لولا رحيلها المفاجئ، إثر إصابتها بمرض نادر، ما كنا سمعنا عنها ولا عرفنا أن فى بلدنا شموساً حقيقية محجوبة عن ساحتنا العامة، فى الوقت الذى نحن فى أمس الحاجة لنقتدى بها وبإخلاصها للعمل وبقيمة الإنجاز الحقيقى الذى تجسده.. ترى كم باحثاً فى مصر وكم عقلاً وكم منجزاً يستحقون الكشف عن جهودهم المخلصة ويحتلون الصدارة، عوضاً عن الفقاعات التى تحاصر الأجيال من كل جانب، ضاربة كل قيم العمل الجاد والإخلاص للوطن.. كم منى بكر فى بلدنا ولا نسمع بهم، بينما الإعلام وماكينته الكسول يضيع الأعمار والمعانى فى استهلاك ما هو مستهلك، رحلت العالمة المصرية فى صمت فى ذروة عطائها، ولله الأمر من قبل ومن بعد، والشاشات محجوزة لتراشقات فجة واحتفاءات فارغة والأدمغة خارت من طول ما عاشت وعايشت رموز الورق وأئمة الكلام..رحلت تاركة لنا ذلك الإحساس بالمرارة والفراغ معاً، وهو ما ينبغى أن يتحول إلى درس، هل كان على الدكتورة منى بكر أن تقبل بواحد من العروض التى حاولت استمالتها لتعمل «بره مصر»، لنجرى نحن بالداخل وراءها بالمشوار، ونقدمها للناس ونقول الحقوا نابغة مصرية!؟ نحن ضحايا مثل مصرى عميق الدلالة.. «الشيخ البعيد.. سره باتع».. وهو نوع من افتقاد البصيرة.. لا نرى إلا البعيد الذى لا نمتلكه.. ونزهد فيمن عاش بيننا واختارنا، مهما أخلص أو أنجز أو منح، نحن متخصصون، ليس فى هدر الكفاءات وحدها.. بل هدر المعانى أيضاً. رحم الله بنت أسيوط وعوضها وأعاننا نحن ومدنا بالبصيرة التى نحن أحوج ما نكون.. إليها.