تدور عجلة اليأس يومياً فتقضى على الأخضر واليابس من وجود إعلام حقيقى مبصر وضارب فى جذور الوعى أو قادر على التحليق، فأغلبنا يرى أن الإعلام أصبح لا يطرح إلا شراً، وبعض الإعلام يرسل أشعة مسلطة تغلق أبواباً من الثقة وبعض الإعلام دمار، ومنهج السخونة والإثارة أصبح هو السيد المتسيد وكأنه محيط يعيد إغراقنا فى مياهه كلما جفت ثيابنا من البلل. هذا المنهج عديم الإشعاع يحمل جمرة مطفأة اسمها الوعى، وكلما تضاعفت كثافة الرخيص والتافه فى الإعلام كلما تضاعفت نسبة المشاهد، وأصبح السيئ سيداً يتحكم، أما الجيد صاحب الكفاءة فهو يتراجع يأساً أو إجباراً، وإذا كان الإعلام يدمر وهو يعتقد أنه يبنى فهو إعلام جاهل، والجهل يولد الارتباك، والارتباك يجعل كل الأشياء تتهاوى، وعندما ينتبه الإعلام ويمتلك الوعى يستطيع استعادة الثقة فى خلق محتوى حقيقى بغض النظر عن كل الأمراض العالقة الآن فى الإعلام أو فى السياسة أو فى المجتمع، وكلما اشتدت خطايا الإعلام تومض تيارات وعى على الضفة الأخرى من النهر تؤكد أنه إذا حضر الوعى عاد الاتزان. ليلة الثلاثاء الماضى كانت هناك ثلاث ومضات من الوعى؛ قدم خيرى رمضان مناظرة بين محمد أبوحامد، عضو ائتلاف دعم مصر، الذى يمثل الأغلبية فى البرلمان، وضياء داود، ممثل تيار 25/30 الذى يمثل المعارضة، وكان عنوان المناظرة: هل يعبر البرلمان المصرى عن شعب مصر؟
هذه المناظرة أكدت الخروج عن شبح الخوف الذى أصبح موجوداً فى الإعلام والذى جعل البعض يرى أن الإعلام أصبح صوتاً واحداً وأصبح مكبلاً، ولكن عندما يقرر الإعلام أن يكون مهنياً وعندما يملك الكفاءة والجرأة ويتحمل المسئولية يستطيع الخروج من هذا الفخ، فالمناقشة كانت قوية وجريئة وشديدة الاحترام وبها حوار بين الأطراف دون خوف ودون ازدراء ودون تكميم أو قهر الرأى المخالف، والنتيجة فى وجود ومضات يمكنها الوقوف أمام سيطرة إعلام الكبائر.
وفى سياق الومضات المضيئة قدم عمرو أديب حواراً مهماً بعيداً عن أجواء الإثارة واللهاث وراء نسب المشاهدة والأداء «الشو» الاستعراضى، وقدم مناقشة فى صميم الأمن القومى المصرى جاءت فى حوار هادئ ثرى بالمعلومات الكاملة عن العدو الذى تواجهه مصر فى سيناء والذى نختصره دائماً فى عنوان عريض «جماعات إرهابية» دون أن نعرف من هؤلاء، وما هى أعدادهم وانتماءاتهم وتسليحهم وخططهم، ومن يقف وراءهم، ودور الأطراف الخارجية فى وجودهم، ودور جماعة الإخوان، كانت مناقشة شارحة ومهمة وممتازة ومفيدة وفى صميم اهتمامات الناس والدولة، لميس الحديدى قدمت أيضاً تحقيقاً شديد التميز فى فقرتها الإخبارية عن خبر مهم يتعلق بأزمة حقيقية وهى المتعلقة بمشروع قانون السلطة القضائية التى أحدثت أزمة اندلعت بين الهيئات القضائية وبين مجلس النواب الذى أصدر تشريعاً اعترضت عليه الهيئات القضائية لأنه يمنح رئيس الجمهورية حق تعيين رؤساء السلطة القضائية، وهذا لا يجوز دستورياً،
ورغم أنه موضوع فى غاية الحساسية ويتعلق بأزمة بين السلطة القضائية والسلطة التشريعية فقد تمت مناقشته باحترافية عالية مع جميع الأطراف بمنتهى الوضوح والصراحة وبكامل الاحترام ودون مهاترات، واختيار الأطراف الثلاثة كان فى غاية التوفيق لأن لغة الاحترام رغم التضاد كانت هى اللغة السائدة.
إذاً الإعلام حين يريد يستطيع، فثلاثة موضوعات مختلفة وحساسة فى السياسة والأمن القومى تم التعامل معها وتقديمها بمهنية وإحساس بالمسئولية ليعيد الثقة فى إمكانية وجود إعلام حقيقى بعيداً عن الخوف أو التحفظ أو الانبطاح بعيداً عن الإثارة والمهاترات.
ورغم سيادة الإعلام الرخيص فى أغلب الأحيان فإن هناك أيضاً بعض الإشارات إلى أن بعض الإعلام فى حالة انتباه ويقظة، فمسابقة مثل «هنا الشباب» التى تقدمها قناة «سى بى سى» نقلة جديدة فى الإعلام وتعيد الثقة فى شعار سيئ السمعة اسمه الإعلام التنموى، حيث إن هذا الإعلام لا يشاهده أحد، ولكن إذا وجد الوعى والكفاءة فإنها تحول هذا الإعلام إلى مادة شديدة الجاذبية والإفادة، فهذه المسابقة تؤكد أن هناك طاقات وعقولاً وأفكاراً مبهرة فى مصر، وأن هذه الطاقات والعقول الشابة لم تقتلها السياسة، وأنها تجاوزت المشاكل والإحباطات فحلقت بطموحها وبما تملكه من تعليم جيد وإرادة وفهم، وفى نفس الوقت هناك جيل ثانٍ يقيم هذا النجاح وهذا الطموح ويخلق تواصلاً بين الميديا والقطاع الخاص والشباب والمجتمع المدنى.
إذاً اتجاه الرؤية عندما يكون منضبطاً كل شىء ينضبط، وعندما يكون مرتبكاً أو مشوشاً فكل شىء سيصبح مرتبكاً ورخيصاً ويخلق أزمات ومناخاً ورؤى، اتجاه الرؤية الجيد يخلق مساراً ويلتحق به الكفاءة فيزيح الجيد الكائنات والكيانات السيئة، ويزيح الناجح الفاشل، وعندما تكون الرؤية عديمة البصيرة والإشعاع فالنتيجة هى الضياع الذى يمثل صورة من صور عدم الاتزان، وبالتالى يصبح الأنجح هو الأرخص أو المنافق أو الراقص على الحبل، الرابح فى كل لحظة، أو الإعلام الذى يبحث عن الإثارة ويفتعل الأزمات، ويلتحق بهذا الإعلام من يشبهه أو من هو أردأ وأسوأ منه لتصبح كتائب الإعلام كتائب إعدام لكل وعى ورقى ولكل القيم الصحيحة.. الإعلام كالحياة اتزان وحين تفقد اتزانك تكون خارج الطبيعة.