من ضمن ذكريات الطفولة التى لم تختف من ذاكرتى حتى الآن صورة جدتى وهى تضع السلم الخشبى أمام منزل العائلة القديم فى حى السيدة زينب ويعتليه «حليم»، صديق أخى وزميله فى المدرسة، ليعلق لنا على الباب الكبير سعف العيد، فقد كنا نشارك أقباط الحى أعيادهم، كما يحتفلون معنا بشهر رمضان والمولد النبوى، ونتبادل الأطعمة فى جميع المناسبات الدينية، فقد كبرنا معاً ونحن نعرف حد السعف وخميس العهد والجمعة اليتيمة وسبت النور وعيد القيامة، وكانت «أم حليم» ترسل لنا فى كل من هذه الأيام الطعام الخاص به، فلم أنسَ حتى الآن طعم أقراص الطعمية بالسمسم ولا ورق العنب الصيامى ولا البيض الملون بعد إفطار العيد.. وكان سعف «أم حليم» يظل معلقاً طوال العام ليباركنا ويدخل الخير منزلنا، كما علمتنى جدتى، وللأسف قبل أن أشارك أصدقائى هذا العام فرحتهم سقط الشهداء وكان الإحساس المخيف بالألم بدلاً من انتظار الخير والتهانى بالعيد.
وفى وسط الحزن والبحث عن الحقيقة جاءت رسالة من صديق عزيز توصى بالبعد عن المشاعر السيئة لأنها تقضى على الإنسان، فالحزن فى رسالته هو الذى أوحى لى بهذه المقالة بعد أن كنت حائرة ماذا أكتب وأى شىء يمكن أن يقال بعد أن رأيت صورة الأم الشابة المصابة الملقاة على الأرض وتحاول النهوض لترى ماذا حدث لطفلتها ذات العامين فقد كان جثمان الصغيرة على مسافة صغيرة منها وحولها بقايا الجثامين التى تناثرت من قسوة التطرّف والجهل.
نعود للرسالة التى تضمنت أن الحزن يضعف الرئة، والتوتر يضعف القلب والعقل، والقلق يؤثر على المعدة، أما الغضب فآثاره السلبية تظهر على الكبد، والخوف يضعف الكلى. فكيف يمكن أن نعيش بالله عليكم وقد سيطرت علينا كل هذه المشاعر السلبية وما زلنا منذ حد السعف حتى الآن، بل للحق أقول منذ حادث كنيسة القديسين وما تلاها من اغتيالات وذبح وخطف وإخفاء، نعانى من الوجع؟! وجع الفراق ووجع افتقاد الأمان والقلق على مستقبل الأبناء والأحفاد فى بلد أول ما يشاهده القادم إليه من الخارج كلمات الله (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)، بينما أهله أصبحوا الآن يبحثون عن الأمان، ولأننى جزعت من مضمون الرسالة بحثت عن الحقيقة لدى الأطباء، فكانت الإجابة الصادمة التى يجب أن نضعها أمام أعيننا ولا بد أن يدرك ذلك أولو الأمر الذين سيقفون يوم القيامة أمام رب العرش ليسألهم عنا وماذا فعلوا بِنَا ولنا.
يقول أطباء علم النفس إن الألم سواء كان نفسياً أم عضوياً جراء مرض أو إصابة فى حادث أو ما شابه ذلك، هو نظام تحذيرى للجسد البشرى والمسئول عنه المخ الذى يعطى الإشارة بأن هناك خطأ ما حدث للإنسان كى يحفز الشخص لتحرك مضاد لمقاومة المشكلة. ويؤكدون أن الألم يبدأ بالمخ ومقاومته أيضاً تأتى من المخ، والغريب أن الآلام غير المهمة يتجاهلها المخ فلا يشعر بها الإنسان. مثلما يعتاد بَعضُنَا على شرب قهوة الصباح ساخنة جداً دون ألم. كما أن الإنسان من خلال التدريب يمكن أن يؤثر على كيفية تقييم المخ للألم أو الحزن، ولعل أقرب مثال على ذلك أن عداء الماراثون الذى يصاب أثناء سباق الجرى يمكنه تعطيل الألم حتى نهاية السباق عندما يقوم المخ بفرز مادتى الأندروفين والأدرينالين اللتين تخلقان ما يسمى بمستوى (العداء العالى فى العدائين المدربين) وتجعلهم لا يشعرون بالألم.
ولكن كيف نتخلص من الألم؟ أو بمعنى أدق كيف ندرب قلوبنا على مقاومته وعلى احتماله وقد أصبح رفيقاً لنا فى زمن الإرهاب الأسود واللامعقول؟ هل يجب علينا أن ندرب أنفسنا؟
يقول د. ألن هيرش، مدير مركز الأعصاب فى مؤسسة الشم والتذوق للبحوث العلمية فى شيكاغو، إن هناك مادة موجودة فى الجهاز العصبى للبشر والحيوانات على السواء هى (الأندروفين)، وتشكل هذه المادة مع بعض المواد الكيميائية المماثلة لها أو القريبة منها والتى تسمى (الأنسالفين) جزءاً من مجموعة كبيرة من مركبات شبيهة بـ(المورفين)، وتسمى تلك المجموعة (أوبيدات)، حيث تساعد، عندما يفرزها الجسم، على تخفيف الشعور بالألم والحزن بالطريقة التى تعمل بها المسكنات، والمسئول عن إفراز هذه المواد غدة معينة فى المخ ويؤكد د. ألن هيرش أن الأندروفين يفرز كاستجابة للألم والإجهاد، حيث يعمل على تحسين المزاج والشعور بالسعادة والسرور، وأن العلماء اكتشفوا أكثر من عشرين نوعاً من الأندروفين، وأنه من خلال التدريب يمكن للإنسان أن يقوم بدور إيجابى لمقاومة الحزن والألم والتغلب عليهما عن طريق المخ لأن العقل البشرى لديه القدرة على محو ما يزعجه مثله كجهاز الحاسب الآلى عندما يمحو بعض المعلومات من ذاكرته. والآن هل يمكن أن نتفق مع الأطباء وعلماء النفس ونقوم بالتدريب على احتمال ما نعيشه من ألم بعد أن غطت الدماء سعف «أم حليم»، وقتلت الشظايا عم موريس وابنه بيشوى، والعميد نجوى أم الشهيد، والعروس التى كانت تنتظر حفل زفافها، وندعو الله أن يأتى يوم نجد فيه المصريين وقد تم صرف حبوب الأندروفين لهم شهرياً كنوع من الوقاية ومحاولة من المسئولين لننسى الخوف والألم؟ ولا مانع من أن نشاهد قريباً فيلماً روائياً مصرياً تحت اسم (أرجوك أعطنى شوية من الأندروفين).