ليس هناك أى مبالغة لو قلنا إن ما نواجهه من نوعية وحجم «الأمراض الاجتماعية» يكاد يكون تهديداً لا يقل ضراوة عما نواجهه من تهديدات الإرهاب. أى مراقب لما تضخه صفحات الجرائد والبرامج التليفزيونية لا يمكن إلا أن يحس أننا ندفع «فواتير» سنوات طويلة من غضّ البصر وتجاهل قطاعات الأغلبية فى الريف والحضر، فواتير يحتاج تسديدها إلى زمن وتكلفة إنسانية فعلية، سوف يكون على الجميع أن يدفعوها، فلا «فئة ناجية» حتى لو توهّم البعض أن أسواراً أقاموها سوف تعفيهم من دفع الثمن.. لم يعد الأمر مجرد ممارسات استثنائية تظهر من حين لآخر، لكنها وصلت إلى حد لا بد أن يثير خوفاً وقلقاً على «البنية الاجتماعية»، على قوام المجتمع ودرجة تماسكه أو كونه سوياً من عدمه، وهو أمر «جلل».. أمر يتطلب حقيقة أن تتحول مثل هذه الظواهر، التى تبدو وكأنها عبر الزمن قد اكتسبت جذوراً ولم تعد مجرد «بثور» سطحية، إلى مركز لاهتمام مراكز البحث الاجتماعى وكل المؤسسات المجتمعية الآن، وليس غداً. حجم من «التشوهات» الإنسانية والاختلالات صارت جزءاً من المكون الإعلامى، حتى قربت من «الاعتياد»، اغتصابات، وتحرشات، لا تنحصر أو لم تعد تقتصر، لا فى فى فئة عمرية، ولا فى حيز جغرافى.. ريف، أحياء عشوائية وأخرى على حافة المتوسطة.. حتى المدارس لم تنج. الأسبوع الماضى توقف أحد البرامج عند استغاثات آباء وأمهات تلاميذ مدرسة فى قلب القاهرة، تلاميذ فى المرحلة الابتدائية، يقولون إنهم حبسوا أولادهم فى البيوت ولم يرسلوهم إلى المدرسة، الموجودة بالمناسبة فى حى فوق المتوسط، لأن مدير المدرسة لم يتخذ المناسب من الإجراءات إزاء أفعال يتعرض لها الصغار من تلاميذ أكبر سناً فى حمامات المدرسة.. الاختطافات والتعديات الجنسية خرجت وببساطة من طى الكتمان وكأن «انفجاراً» للجنس المريض قد حدث.. لم تعد مثل هذه التشوهات تُنشر فى الصفحات الأولى باعتبارها من «النوازل» أو الكوارث.. دخلت إلى زوايا الداخل من صفحات الحوادث، وتكرارها جعلها لا تُحدث نفس الأثر، وأدعى أنه حتى احتلالها لمساحات من «التوك شو» الليلى أو البرامج التى تهتم حوّلها إلى جزء لا أبالغ على الإطلاق لو تنبأنا أنه قريباً جداً لن يثير اهتماماً! ما زلت أتذكر يوم أن وقعت حادثة ما أُطلق عليه اغتصاب «فتاة العتبة»، أول حادثة من تلك النوعية تتحول إلى موضوع رأى عام. كانت أشبه بنقطة تحول جذرية.. فتاة تتعرض على الملأ، داخل أوتوبيس إلى هجوم من ذئاب، متحرشين، أيامها كان الشعور الجماعى بالصدمة والذهول يكاد لا يستثنى أحداً.
تعال اليوم لترى «الإناء الاجتماعى» ينضح بكمٍّ من جرائم الاغتصاب والتحرش والاعتداءات الجنسية، فى الريف أو الحضر، لدرجة لم يعد معها رد الفعل العام إلا هبّات تتصاعد ثم تهدأ، وأحياناً لا يحتاج الأمر لأكثر من ساعات. ليس ما يجرى من حولنا اجتماعياً، مطمئناً على الإطلاق.. ولا يمكن التعامل معه باعتباره «مبالغات إعلامية»، كل ما فى الموضوع أن الإفصاح أخذ طريقه، سواء إلى أهالى المجنى عليهم أو حتى إلى جهات النشر.. علينا أن نستشعر فزعاً، وخاصة أن بعضاً من الاختلالات «الجسيمة» وغير السوية المخالفة لأى دين أو عرف صار مسرحه «البيت»، «الأسرة»، ووصل إلى حد فاق حتى ما يمكن تصنيفه فى «الاستثناء» المريض أو الخلل البشرى. كم واقعة، فى شهر واحد، أبلغت فيها الأم عن «الأب» لاعتدائه على ابنته؟ أنا أحصيت فى أسبوع واحد ثلاثاً! كم مرة وقعت عيناك على عناوين «اغتصابات» سواء من نفس النوع أو على أطفال أو باختطاف أنثى؟.. هذا «هول».. هول لن ينصلح بقرار، ولا فى أسبوع أو شهر. «هول» ترتّب ولا شك على أوضاع نعرفها جميعاً، لعقود طويلة تم التعامل مع الكتلة الأساسية من الناس باعتبارها «زوائد» أو ملحقات.. هُمشت هذه الكتلة، فلا تعليم ولا صحة، ولا عمل ولا ثقافة، «تراكم أحدث بالفعل تحولاً كيفياً» كما كان يقال.. تهميش تجذّر، وأحدث ما أحدث من تشوهات لم يعد هناك بد من مواجهتها، لأن المحصّلة التى ننكوى بها الآن هى نوع من «التردى الإنسانى» الهائل الذى نلمس كل يوم تداعياته، كأن غطاء انكشف عن إناء تُرك داخله لزمن ما يمكن أن يتحلل، وبالفعل يبدو وكأنه.. تحلل.