كان توماس جيفرسون (1743- 1826) ثالث رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وفضلاً عن ذلك، فإنه يُعرف بكونه أحد الآباء المؤسسين لهذه الدولة، والكاتب الرئيسى لـ«إعلان الاستقلال»، وأحد أبرز المدافعين عن مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان.
ومن أبرز آراء جيفرسون عن حرية الصحافة والإعلام قوله: «إذا كانت الصحافة حرة، وبإمكان الجميع القراءة، فسوف يعم الأمان».
ثمة رجل دولة آخر، لا يقل عظمة، يأتى من الجانب الشرقى للأطلسى، وهو الرئيس الفرنسى الأسبق شارل ديجول (1890- 1970)، الذى أسهم فى تحرير بلاده من الغزو النازى وإعادة بنائها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد تسلم قيادة فرنسا بعد التحرير وأحوالها فى غاية السوء.
يُروى أن ديجول سأل آنذاك: «هل القضاء بخير؟»، فأجيب بـ«نعم»، فأكد قائلاً: «إذا كان القضاء بخير، ففرنسا بخير، فالقضاء هو الدعامة الأساسية للنهوض بأى دولة».
المقولتان السابقتان ليستا محض عبارات بروتوكولية أو دعائية، ولا يجب النظر إليهما باعتبارهما مقاربات شكلية وزخرفات لفظية، لكنهما بكل تأكيد تعبير جوهرى عن أهمية مؤسستى القضاء والإعلام فى أى مجتمع من المجتمعات، بوصفهما ركيزتى بناء وإدامة لا غنى عن أى منهما.
فالعلاقة بين القضاء والإعلام فى مجتمع رشيد حر يجب أن تكون تكاملية، وهما وإن كانتا سلطتين منفصلتين فى أدائهما، وإحداهما سلطة دستورية، وثانيتهما سلطة رمزية، فغايتهما الأعلى واحدة، حيث تتحدد فى تفعيل وإدامة أدوار المساءلة والمحاسبة وإخضاع الأداء للتقييم وحماية حقوق الشعب والدولة.
لقد وقع الصدام بين الإعلام والقضاء فى أكثر من بلد وفى أكثر من حقبة تاريخية؛ فرغم أن المصلحة العامة ظلت الهدف الأسمى المفترض الذى تسعى سلطة القضاء الدستورية وسلطة الصحافة الرمزية لإدراكه، فإن الآليات التى تنتهجها السلطتان خلال عملهما تتقاطع فى أحيان وتتصادم فى أخرى.
وكثيراً ما نتج عن تقاطع آليات عمل القضاء والإعلام مشكلات أضرت بكل منهما، كما أضرت، من دون شك، بالمصلحة العامة، وجارت على حقوق أطراف انخرطت فى صراعات وأحداث، قادتها لأن تتعاطى مع المؤسسة القضائية، وبالتالى لأن تكون موضوعاً فى الإعلام.
وحينما تختل الممارسة القضائية، لأى سبب من الأسباب، فى مجتمع من المجتمعات، فإن حقوقاً قد تُسلب، وأطرافاً قد تُظلم، ومصالح غير مشروعة قد تتحقق، واليقين فى العدالة يتزعزع.
وحينما تختل الممارسة الإعلامية المتعلقة بأنشطة القضاء، لأى سبب من الأسباب، فإن الضغوط تتزايد على مرفق العدالة، وربما يتم حرف اتجاهات الجمهور إزاءه، وقد تتزعزع هيبة القضاء، بما يغل يده عن الوفاء بدوره. إنها حقاً أخطاء مريعة تترتب عليها أثمان مكلفة، لكنها أبداً لا تقاس بتكاليف إقصاء الإعلام عن ممارسة عمله حيال الشئون القضائية، لأن فى إقصاء الإعلام عن مهامه تلك، أو تحجيم أدواره إزاءها، تغييباً لإحدى ضمانات انتظام عمل القضاء وفق المعايير والأسس واعتبارات النزاهة، وإغراء بانتهاك القانون من قبل بعض ضعاف النفوس، وتجريداً للأطراف المنخرطة فى النزاعات من الحماية عبر الظهور العام وإتاحة الفرص لعرض الحجج فى كل الظروف، وفتحاً للأبواب أمام السلطة التنفيذية، فى بعض الأحيان، لتهيمن على القضاء أو تحد من استقلاله ونزاهته.
ما مناسبة هذا الحديث فى ذلك التوقيت بالذات؟
خلال الأسبوعين الماضيين، تفجرت قضيتان فى المنطقة التى تتقاطع فيها حرية الصحافة مع اعتبار القضاء وهيبته.
أولى هاتين القضيتين تخص الصحفى الزميل طارق حافظ، رئيس القسم القضائى بصحيفة «الفجر»، والذى استطاع أن ينشر موضوعاً صحفياً مميزاً، يكشف خلاله بالمستندات الصحيحة هيمنة أبناء القضاة وبعض رجال السلطة العامة على كشف تعيينات النيابة العامة لدفعة 2014، كما يكشف عن تعيين أحد الضباط فى النيابة العامة، رغم أنه سبق اتهامه فى قضية تعذيب، جرت وقائعها إبان خدمته فى محافظة الأقصر.
وقد وجهت النيابة العامة للزميل حافظ اتهامات بـ«خدش الرونق العام للمجلس الأعلى للقضاء، بقصد النيل من اعتباره، وتكدير السلم العام، وإلحاق الضرر بالسلطة القضائية عن طريق نشر أخبار كاذبة، وتعمد إزعاج ومضايقة الغير، بإساءة استعمال أجهزة الاتصالات».
أما القضية الثانية، فتخص الكاتب الزميل علاء عريبى، الذى نشر، فى 12 مايو الحالى، مقالاً مميزاً فى صحيفة «الوفد»، تحت عنوان «نظام العدالة»، انتقد خلاله ما اعتبره «عواراً فاحشاً» فى مرفق العدالة، وهو العوار الذى حدده فى «بطء إجراءات التقاضى»، و«الاعتماد فقط على التحريات الأمنية» فى إقامة الاتهام، دون استدلال كافٍ، فضلاً عن تحول آلية الحبس الاحتياطى إلى عقوبة فى حد ذاتها، مستشهداً فى هذا الصدد بقضية الناشطة آية حجازى، التى أمضت فى الحبس الاحتياطى مدة تقارب ثلاث سنوات، قبل أن تحصل على البراءة، لـ«عدم ثبوت الأدلة». إن أى مقاربة مهنية منصفة لما نشره كل من الزميلين لا يسعها إلا أن تثنى على أداء كليهما، خصوصاً فيما يتعلق باستخدام الأدلة والوثائق والبراهين، واستخدام اللغة المناسبة فى النقد، والاتصال الجلى بالمصلحة العامة، والنهوض بالدور المفترض للصحافة فى نقد الأداء العام.
لقد تحركت النيابة العامة، كما تحرك مرفق القضاء، ضد الصحفيين الزميلين، باستخدام أدوات ذات طابع قانونى، وبشكل يتصادم مع المقصد الدستورى من تحصين حرية الرأى والتعبير، وما جاء تفصيلاً فى هذا الصدد من منع العقوبات السالبة للحرية فى مجال النشر والإذاعة.
ثمة عدد من الأسئلة التى يمكن من خلال طرحها معرفة حدود الدور الذى يمكن أن تلعبه الصحافة إزاء الجسم القضائي؛ ومنها:
هل يخطئ مرفق العدالة أحياناً؟ وهل تسفر عمليات إدارة الشئون القضائية عن مظالم أحياناً؟ وما الضمانة التى تبقى إذن، للمصلحة العامة، ولأصحاب الحقوق المهدرة، إذا وقع الخطأ العدلى المفترض؟ هل القضاء هيئة أو سلطة مقدسة، أم هيئة أو سلطة جديرة بكل احترام وهيبة؟ وهل يمكن أن يخطئ القائمون على شئون تلك الهيئة، أو يتجاوزوا الأعراف والقوانين بصفتهم بشراً، أم أنهم لا يمكن أن يقترفوا خطأ أو يرتكبوا مخالفة؟
وإذا وقع الخطأ، أو الموقف الملتبس الجدير بالفحص والمراجعة، من القائمين على تسيير شئون القضاء، فهل يجب السكوت عنه، أم يجب أن تنهض الصحافة بدورها فى إلقاء الضوء عليه، وإظهار عواره المفترض، تكريساً لدور الصحافة من جهة، وخدمة للصالح العام، وصيانة لصورة القضاء، من جهة أخرى.
هل تكريس اليقين فى عدالة القضاء ونزاهته هدف يجب أن يسعى الإعلام إلى إدراكه فى حد ذاته، أم أن توضيح الآلية التى يعمل بها القضاء، وعرض المعايير التى يلتزمها أمام الجمهور، هو ما سيمكّن هذا الأخير من بناء صورة القضاء ومنحه الثقة أو حجبها عنه؟
يجب أن يمارس الصحفيون دورهم إزاء شئون القضاء بالحذر الواجب حيال سلطة تستمد جزءاً من اعتبارها من هيبتها المفترضة، ويجب أن يحرص القضاء، وبقية سلطات الدولة، على حماية حرية الصحافة وصيانة دورها فى كشف العوار الذى قد يعترى أداء أى سلطة أو إطار عام، طالما أن ذلك يتم بالأدوات المهنية، وبالتوثيق اللازم.