يبدو أن الشعارات التى أطلقها الرئيس «ترامب» بشأن أمريكا أولاً وأن يدفع الحلفاء مقابل الحماية الأمريكية بدأت تؤتى ثمارها، ليس فقط فى أداء السياسة الأمريكية بل فى اتجاه الدفع نحو مراجعة التحالفات الدولية التى استقرت لعقود طويلة سابقة، وغالباً البدء فى مسارات جديدة قد تغير من هيكل القوة فى النظام الدولى. ويستهدف «ترامب» بناء علاقات تحالف جديدة مع حلفاء بلاده التقليديين الكبار، والقائمة تشمل الاتحاد الأوروبى واليابان والمكسيك وكندا، ويسعى إلى التخلص من الالتزامات فى قضايا تخص العالم بأسره مثل حماية البيئة والتغير المناخى، والتى تم التوصل إليها فى صورة معاهدة دولية عام 2015 تحت مظلة الأمم المتحدة وبعد مفاوضات دولية مرهقة تطلبت العديد من الدراسات البيئية والمواءمات الاقتصادية والسياسية، ولكن الرئيس «ترامب» يشكك فيها ويرفض التوقيع عليها ما لم يُعد تغيير الكثير من بنودها. وهو ما رفضته الدول الست الكبرى.
هذه المقدمة تكشف المغزى المهم لتصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التى دعت فيها أوروبا إلى الاعتماد على ذاتها وأن تصنع مصيرها بنفسها، وأن زمن الاعتماد على الغير قد ولّى ورحل، والغير هنا مقصود بهما قوتان كبيرتان، وهما الولايات المتحدة وبريطانيا، الأولى تريد من أوروبا أن تستقل بالدفاع عن أمنها، وأن لا ترسل إلى الأسواق الأمريكية الكثير من البضائع والمنتجات الأوروبية كمقدمة لسياسة تجارية حمائية من شأنها أن تهدم أحد أكبر أسس العولمة الراهنة. أما القوة الكبرى الثانية فهى بريطانيا التى اختارت الخروج من الاتحاد الأوروبى، وأن تستعيد نفسها كبريطانيا وليس بلداً أوروبياً.
ما تدعو إليه «ميركل» يعد جرس إنذار قوى للاتحاد الأوروبى، ودعوة إلى تغيير سياسات أمنية وعسكرية ظلت سائدة لفترة طويلة، وكلاهما يصب فى أن الاتحاد الأوروبى الآن يواجه لحظة مصيرية، فإما أن يستمر كمنظمة إقليمية تعتمد أسلوب التدرج نحو الوحدة الأوروبية، أو يتعثر وينفرط عقده عضواً بعد آخر وينتهى ويصبح خبراً بعد أثر. فتاريخياً ارتبط الأمن الأوروبى عضوياً بأمن الولايات المتحدة، وهو ارتباط استند إلى أن مصدر التهديد الرئيسى يأتى من الاتحاد السوفيتى ثم من روسيا لاحقاً، وأن حلف الناتو هو أداة الردع الجماعى لهذا التهديد الخطير. وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى والتغيرات الكبرى التى حدثت فى روسيا منذ 1990 وحتى الآن، فقد ظل الناتو حريصاً على صيغة التهديد الروسى التى تجمع بين أمن أوروبا وأمن الولايات المتحدة، وذلك رغم الفارق الكبير فى الإنفاق العسكرى بين مجموع دول الناتو والإنفاق العسكرى لروسيا وحدها. ويُذكر هنا، وحسب إحصائيات 2016، أن الولايات المتحدة وحدها تنفق 611 مليار دولار على شئونها العسكرية مقابل 69 مليار دولار تنفقها روسيا، أى إن الإنفاق الأمريكى يمثل 9 أضعاف الإنفاق الروسى، ويزداد الفارق إلى أكثر من 15 ضعفاً إذا تم إدماج الإنفاق العسكرى لدول الناتو مع الإنفاق الأمريكى مقارنة بالإنفاق الروسى.
وتدل هذه الإحصاءات على أن مقولة التهديد الروسى هى مقولة مهترئة فعلياً، ومع ذلك كان لها فعل السحر فى استمرار حلف الناتو، وفى ضوء تصريحات أنجيلا ميركل بشأن اعتماد أوروبا على ذاتها لحماية مصيرها، يصبح السؤال المركزى كيف ستكون علاقة الاتحاد الأوروبى بحلف الناتو فى حال شكلت دول الاتحاد قوة عسكرية مستقلة لحماية الأمن الأوروبى؟ ومعروف أن الدعوة إلى تشكيل قوة أوروبية ليست جديدة، وكانت فرنسا زمن الرئيس ديجول أكثر أعضاء المنظومة الأوروبية دعوة إلى إنشاء ذراع عسكرية أوروبية استناداً إلى افتراض ضمنى بأنه قد يأتى يوم وتتخلى فيه واشنطن عن التزامها بأمن أوروبا، ويبدو أن هذا اليوم جاء فعلاً. لكن الأمر الآن لن يكون يسيراً حتى لو اجتمعت قوى أوروبية رئيسية على البدء فى تنفيذ هذه الفكرة، لا سيما ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورج وهولندا وإيطاليا، فهناك باقى أعضاء الاتحاد الأوروبى وقوامهم 23 عضواً آخرين، وكل منهم لديه همومه الاقتصادية والأمنية الخاصة به، ومنهم من يرى أنه يكفيه أن يزيد بعض إنفاقه المخصص لحلف الناتو استجابة لدعوة الرئيس «ترامب» بدلاً من البدء فى تشكيل قوة عسكرية جديدة غير محددة المعالم والأهداف.
ويستند المترددون إلى أن الاتحاد الأوروبى الآن يواجه تهديدات ليست عسكرية بالضرورة، من قبيل موجات الهجرة من دول الأزمات فى الشرق الأوسط، وتعثر شديد الوطأة لاقتصادات بعض الدول مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال ودول البلقان الصغيرة، وصعود القوى والأحزاب اليمينية التى تطالب بالانسحاب من الاتحاد، وبالتالى فالأولوية يجب أن تكون إعادة هيكلة الاقتصاد الأوروبى ككل وليس الدخول فى مشروعات عسكرية طموحة لا تتوافر لها الموارد المناسبة، وأن تنشط أوروبا فى إيجاد وضمان حلول سياسية لأزمات الشرق الأوسط، وفى حماية البيئة الكونية، ووضع برنامج عمل ملزم لكل الأوروبيين لمواجهة موجات الهجرة غير الشرعية والتركيز على بناء الهوية الأوروبية الموحدة. ومع ذلك يمكن القول إنه فى حال اتفاق ألمانيا وفرنسا على البدء فى تشكيل منظومة عسكرية أوروبية مستقلة تراعى طبيعة التهديدات الجديدة وتنوعها، فقد تتراجع تلك الانتقادات وتخبو موجات التردد التى تنتاب البعض. ويبدو أن اللحظة الراهنة مناسبة لهذه الخطوة، لا سيما فى ضوء التفاهم بين «ميركل» ورئيس فرنسا الجديد إيمانويل ماكرون، على ضرورة إنقاذ أوروبا واتخاذ إصلاحات جذرية فى بنية الاتحاد ومواجهة الاتجاهات الشعبوية المتصاعدة فى أوروبا.
تشكيل القوة العسكرية المستقلة ليس فقط الطريق الوحيد لاعتماد أوروبا على ذاتها، فالقضية أكبر كثيراً من هذا المجال رغم أهميته وحيويته، فأوروبا مطالبة أن تكون لها سياسة جوار جديدة، لا سيما تجاه الجار الروسى الكبير، وأن تتخفف من الضغوط الأمريكية عليها والساعية إلى ربط أوروبا تلقائياً بسياسة العقوبات الأمريكية الشهيرة ومحاصرة روسيا، وهى السياسة التى تحقق مصالح اللوبى العسكرى الأمريكى أكبر مما تحقق مصالح حيوية لأوروبا. بعبارة أخرى على أوروبا أن تسعى للتقارب مع روسيا من خلال حوار استراتيجى ينهى مصادر الخلافات فى الرؤية تجاه مشكلات مثل القرم وأوكرانيا وسياسة تمدد الناتو شرقاً، ويفتح باب التعاون فى مجالات نقل الغاز الروسى دون منغصات والتعاون فى إيجاد حلول سياسية للأزمات الإقليمية. والمرجح أن الولايات المتحدة سوف تمارس ضغوطاً لإفشال مثل هذه المساعى الأوروبية حال حدوثها، وهنا سيكون الاختبار الأكبر لمدى قدرة الاتحاد الأوروبى على أن يكون قطباً دولياً وليس تابعاً أمريكياً.