تستقطب المساجد كثيراً من المصلين خلال شهر رمضان المعظم. الكل يسارع لصلاة الجماعة والتراويح والتهجد إن أمكن، لا سيما فى الأيام العشرة الأخيرة، لعل القدر يكتب لهم الخير المشهود فى ليلة القدر. فى كل المساجد يجتهد الأئمة فى التواصل مع المصلين وفى الدعاء وفى الإجابة عن أسئلة تكاد تكون مكررة كل عام دون أى تغيير؛ كتقدير نصاب زكاة الفطر، وكيف يُقدر، ولمن يخرج، وهل يجوز دفعها للأبناء إن كانوا محتاجين، أو للأقارب، وغير ذلك من الأسئلة التى تكون عصية على قائلها، وغالباً ما تجد الإجابة المريحة الشرعية للنفس لدى هذا الإمام أو ذاك. ومن الأحاديث المحببة لنفوس المصلين؛ فضل الصيام، وفضل الدعاء الخالص لوجه الله تعالى، وفضل ليلة القدر وعلاماتها، وفضل صلاة التراويح والقيام بالليل، وفضل قراءة القرآن، وفضل الاعتكاف، لا سيما فى الأيام العشرة الأخيرة ولياليها الوترية خاصة، وفضل صلاة التهجد. وفى المساجد التى يُصرح فيها بالاعتكاف يجتمع قليل من المعارف على تلك السّنة، ويعيشون معاً فى تلك الأيام مصلين وقارئين للقرآن الكريم بعيداً عن صخب الدنيا وضجيجها، وأملهم الأكبر أن يكون اعتكافهم مقبولاً ووجاءً لهم من أهوال يوم القيامة.
رمضان كل ما سبق، والمساجد تَعمر به وخلاله غير ما تَعمر فى الأيام والشهور الأخرى. فكثير من المسلمين يُخرجون زكاة مالهم فى شهر رمضان، ويجودون مما رزقهم الله على عباده المحتاجين من المساكين والفقراء وأبناء السبيل والغارمين واليتامى وغيرهم من المحتاجين، كما يجودون على عمارة المساجد، فمنهم من يتبرع بمال لزيادة الإنارة أو إصلاح مطلوب لأجهزة الصوت أو التكييف أو تحسين أماكن الوضوء أو التبرع بمبردات المياه، أو شراء سجاد جديد، وغير ذلك مما يعتقد المسلم أنه أحد أبواب الخير التى تقربه إلى الله سبحانه وتعالى.
غير أن عالم المساجد لا يقتصر على صحن المسجد، وليس ما تراه العين واضحاً وجلياً من قبيل ما ذُكر، فهناك عالم آخر يحيط بكل مسجد. ثمة خصوصية مجتمعية لكل مسجد هى امتداد للخصوصية المجتمعية للحى أو المكان أو الشارع أو الطريق الذى به المسجد. وهنا يؤدى ذكاء الإمام وقدرته على الملاحظة إلى صياغة لغة خاصة تناسب أهل الحى أو المنطقة، وتكون سبباً فى التقرب منهم والتعرف على ما يهمهم ويسعى جاهداً إلى شرح وبيان الشرع فى تلك الهموم. وفى كل مسجد هناك نخبة من أهل الحى ترتبط به ويرتبط بهم، ومنهم من يؤذن ومنهم من يقيم الصلاة إن غاب الإمام أو فى أيام إجازته الأسبوعية، ومنهم من يؤمن المصاريف الضرورية للمسجد ويجرى على احتياجاته حسب مقدرته وحسب تعاون الأقارب والأهل والأصدقاء والمترددين على المسجد، وفى كلٍ تحدث المبادرات المصحوبة بحسن النية والتقرب إلى رب المسجد وكل مسجد على وجه الأرض.
خارج المسجد ومحيطه هو عالم آخر ظاهرياً لا علاقة له بما يجرى فى المسجد من صلوات وعبادات، أما واقعياً فهو مجتمع مكمل للمسجد، يستفيد منه قدر الاستطاعة؛ فهناك الطالبون الدائمون للمساعدة، تغلب عليهم النساء اللاتى يحملن أطفالاً صغاراً وبعض مناديل ورق شكلاً لغرض البيع، وفعلاً لجذب ما يجود به المصلون. وهؤلاء دائمات الوجود بحيث يصبحن علامة من علامات بيئة المسجد ومحيطه، وإن تعرف المرء على قصص بعضهن يكتشف الكثير من مآسى الزواج المبكر وما يتلوه من طلاق سريع، وهجر الزوج وموت الأب أو الأسرة كلها، وفقدان العلم والجهل بكيفية الحصول على سند من الحكومة عبر برامجها الاجتماعية المختلفة.
إلى جانب العلامات النسائية هناك علامات رجالية لا تقل إثارة للعقل والفكر، فغالباً ما يوجد بائعون ولكل منهم قصة ولكل منهم مجال فى بضاعة يتكسب منها، وإن تكرر اللقاء مع بعضهم تتضح أسباب تلك المهن غير المضمونة، ولكنها على الأقل توفر بعضاً من لقم العيش دون التورط فى السؤال، وتبدو على بعض منهم علامات الصحة، وإن تقربت ونصحت تعلم أن ظاهر الأمر ليس كحقيقته، فليست هناك صحة ولا يحزنون، بل مرض خطير أو مزمن يحول دون الحصول على فرصة عمل فى القطاعين العام والخاص معاً، وهنا يبرز الداعمون سراً سواء بالمال أو بتوفير العلاج المطلوب ودون ضجة. ومثل هؤلاء يراهم مترددون على المسجد أنهم أولى بالمساعدة من غيرهم، فهم يجرون على أرزاقهم رغم ما يعانونه من مرض عضال، ويحرصون على كرامتهم الإنسانية رغم تنطع الأجهزة الحكومية فى تقديم الدعم. قال لى أحدهم، وهو يُعانى من مرض عضال فى معدته يتطلب عملية خاصة، إنه وصل إلى وزير الصحة، قبل مدة، بدعم من أحد المصلين، وطُلب منه كل الأشعة والتقارير الطبية، وقيل له سيأتى دورك، ومرت سنوات ولم يأت الدور بعد، أما المرض فقد استفحل وليس لديه سوى الصبر والتحمل ودعم المعارف.
صنف آخر إلى جانب الباعة والمرضى والسائلين من كرم المصلين، هؤلاء الذين يقومون بترتيب السيارات وانتظار العائد بعد إتمام الصلاة؛ منهم من يندرج للوهلة الأولى فى طائفة العناصر القاسية ولن أزيد، ومنهم من دفعته ظروف الحياة، ومنهم من يجرى على مصروف يساعده على إتمام تعليمه الإعدادى وبعدها كفى المؤمنين شر العلم ودروسه الخصوصية. ومنهم من أتى من ملجأ عاش فيه إلى عمر الثامنة عشرة ثم بعدها قيل له إن أرض الله واسعة، خرج إليها لا يعرف أحداً ولا يملك معرفة أو علماً أو مهنة، فلم يجد إلا مجموعات مافيات تسيطر على تلك الأرض المفتوحة التى تغيب عنها الدولة غياباً تاماً، وكان الاختيار صعباً، فإما الانخراط غصباً فى عالم الجريمة ليجد من يحميه ويوفر له لقمة عيش مغموسة بالإهانة وضياع الكرامة الإنسانية، وإما الاحتماء بمسجد يحصل من المصلين فيه على بضعة قروش وفى الأعياد والمواسم الدينية قد تصل إلى بضعة جنيهات، أو قميص قديم أو جلباب يستر بدنه، ولربما ساعده أحد أهل الخير ليوفر له مكاناً وبعض بضاعة يتكسب منها وليضع أولى خطواته نحو استرداد إنسانيته الضائعة. بعض هؤلاء حين تراهم ووجوههم العابسة بفعل المعاناة والضياع المفروض عليهم وغياب الدعم الحكومى ولا مبالاتها، تنفر منهم وتبتعد عنهم، وإن تواصلت معهم وتقربت منهم بحذر لعلمت أننا جميعاً بلا استثناء نتحمل ذنبهم، وسوف نُحاسب على تجاهلنا لهم، أعزنا الله جميعاً فى تلك الأيام المباركة.