منذ اللحظة الأولى ونحن منحازون لمسلسل «الجماعة»، وقلنا إن معيارنا هو المكاسب التى يمكن أن تتحقق منه ودعونا للصبر عليه إلا من ملحوظة أساسية ومهمة وجوهرية وهى عدم إبراز التغيير الجذرى الذى جرى فى المجتمع المصرى بين المواجهتين الأساسيتين، أى بين عامى 1954 و1965، وقلنا إن التغيير خصوصاً الاجتماعى كان أحد أسباب الصراع ولذلك ليس غريباً أن يرفض الإخوان قانون الإصلاح الزراعى وإلى اليوم يرفضونه ويرفضون القطاع العام وكانوا يستعجلون برنامج الخصخصة فى كل البرلمانات التى كانوا فيها، فضلاً عن رفضهم التسعيرة الجبرية ورفضهم لأى دور لتدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى ولذلك فى عهد الرئيس مبارك شاع الوصف الشهير بأن الحزب الحاكم هو الوطنى وأن الإخوان هم أيضاً الحزب الوطنى ولكن «ملتحى»!!
المقصود أن الصراع كان حول رؤى انحازت فيها الثورة للناس وانحازت الجماعة للطبقات الثرية ومن أجل ذلك دعوا لانتخابات برلمانية لإدراكهم أنها ستأتى بأصحاب الثروة والنفوذ وبالتالى فلا تغيير ولا تبديل وكأن لا ثورة قامت ولا ملك غادر البلاد ولا جيش تحرك لإنقاذ شعبه. وهنا كانت انتهازية «الإخوان» التى قادت الآلاف من أبنائها للجحيم من أجل حماية قادة الجماعة وكانوا من كبار ملاك الأراضى والثروات!
وطبعاً لكون المسلسل ليس عن «ثورة يوليو» فلم نطالب بأن يُظهر ذلك بالتفاصيل إنما أردناه بشكل عابر أو بالإشارات كعناوين صحف أو من خلال البيانات والنشرات الإذاعية أو أحاديث العامة فى المقاهى مثلاً، خصوصاً أن التغيير الاجتماعى الهائل لعب دوراً فى حصار أفكار الجماعة وليست الإجراءات الأمنية وحدها.. فتحمل الدولة مسئولية انتشال الطبقات الفقيرة من ثالوث الجهل والفقر والمرض وتوفير التعليم فى كل ربوع مصر ولكل الناس وكذلك العلاج المجانى والرعاية الصحية الشاملة وانتشار الوحدات الصحية فى القرى مع التوسع فى إرسال البعثات التعليمية وغالبيتها كانت من المتفوقين من أبناء الفقراء بغير أى تمييز طبقى وبالتفوق المطلق مع إقرار مبدأ تكافؤ الفرص للصعود الاجتماعى من خلال الوظائف المهمة فى الجيش والقضاء والشرطة بلا تمييز دفع المصريين نحو الانحياز للثورة وإجراءاتها وسحبت البساط من تحت أقدام الإخوان وكل الأحزاب الموجودة.. وهذه «روشتة» لكل الحكومات فى مصر وغيرها للتعامل مع هذا التيار حيث أدى قيامهم فى مصر بالأدوار الاجتماعية من خلال تقديم خدمات الصحة والعلاج فى مستوصفاتهم الشعبية وتقديم الدعم للفقراء فى المنازل وحصص التقوية التعليمية إلى انتشارهم بصورة مرعبة بعد تراجع الدولة عن واجباتها فى السبعينات وما بعدها!
على كل حال أمام كاتبنا الكبير وحيد حامد معالجة ذلك وتوضيحه فى الجزء الثالث الذى ندعوه للشروع فوراً فى كتابته فلا ينبغى أن يطول الفاصل بين الجزأين الثانى والثالث عدة سنوات ولا حتى موسماً رمضانياً واحداً، خصوصاً لارتباط وتشابه الماضى بالحاضر بتحذيراته ورسائله ودروسه!
نعود لحديث الحصاد.. المكاسب كثيرة ومهمة.. فالمسلسل أكد فى عمل درامى يدخل البيوت ويعلم البسطاء أن جماعة الإخوان جرّت الخراب على مصر وعلى أعضائها ومنهم طيبون وأبرياء منذ تأسيسها وحتى اليوم وهى جماعة لا تعرف إلا الوصول للسلطة والحكم مهما كلفهم ذلك من ثمن يكون غالباً غالياً وباهظاً وأنهم لا يتورعون عن القتل والإرهاب حتى فيما بينهم بل حتى لو طال أبرياء لا ذنب لهم كما شاهدنا فى عملية اغتيال المهندس السيد فايز وراح أبرياء معه فى عملية تفجير منزله!
كما أثبت المسلسل أن كل الجرائم التى أنكرها الإخوان بل وبنوا بإنكارها تنظيمهم الكبير من خلال استدرار عطف الناس بتصوير تاريخهم بأنه تاريخ من العناء والشقاء والتعذيب والشهادة والدم ومن أجل ماذا؟ من أجل الإسلام!!! ليثبت المسلسل ما هو ثابت تاريخياً أصلاً لكن هذه المرة مجسداً بالصوت والصورة أن كل هذه الجرائم حقيقية مروية ومنقولة من كتب الإخوان أنفسهم وأنها رُويت بعد سنوات طويلة من الأحداث ومن خلال مذكرات أو ذكريات أو أحاديث صحفية بما ينفى عنها تهم التلفيق أو الإكراه وبالتالى فلا حادث المنشية تمثيلية ولا تنظيم سيد قطب تلفيق من الدولة!
أثبت المسلسل أن سيد قطب لم يعذب كما افتروا ولا زينب الغزالى عذبت كما تجنت فى كتابها المشبوه الذى اعترف يوسف ندا قبل سنوات قليلة بتأليفه!! كما أثبت المسلسل أن التعذيب فى «تنظيم 65» لم يكن للتشفى أو للعقاب بقدر ما كان للحصول على اعترافات ومعلومات لإنقاذ البلاد من تدمير محقق ولذلك لم يتعرض آخر من اعتقلوا لأى تعذيب!
كذلك أثبت المسلسل اتصالات محمد نجيب مع الإخوان و«لعبة الموت» التى أطاحت به، وأثبت المسلسل أن إطاحة نجيب كانت من مجلس قيادة الثورة كله وليس كما زعموا أنه قرار من عبدالناصر وحده، ولم تكن خلافاً على الديمقراطية بل إن خالد محيى الدين نفسه يقول إنه عند طرح الديمقراطية فى بداية الثورة رفضها أغلب الأعضاء بينما وافق عليها جمال عبدالناصر!
ولكن كل «الإثباتات» السابقة سُحقت تحت سطوة إعلام الإخوان الذى هيمن على عقل مصر كلها نصف القرن الأخير تقريباً من خلال استخدام المساجد وشرائط الكاسيت لبعض الشيوخ وكذلك إصدارات الجماعة ونشراتها ودروسها وكتبها مع دعم من أنظمة سياسية كانت مستفيدة من تشويه هذه الفترة فتركت لهم الساحة كلها!
أما عن الخسائر فسيكون معيارنا هو الوطن كما كانت المكاسب ولذلك سننحى فكرة انضمام جمال عبدالناصر للإخوان، إذ إنها لا معنى لها إلا فى التأصيل العلمى والتاريخى للموضوع لكن استمرار الاتهام رغم أنه الحاكم الوحيد الذى طهر البلاد من الإخوان فهذا عبث لا يصح الاستمرار فيه.. ولكن تبدو الخسائر فى الإفراط على لسان أبطال العمل فى استعراض أفكار الجماعة وأفكار سيد قطب واتهاماتها لخصومها دون الرد عليها.. فمثلاً اتهام انتشار الشيوعية أو أن عبدالناصر «كافر» ومرة أخرى «شيوعى» وتكرارها كثيراً دون رد لا من زكريا محيى الدين الفارس والرجل القوى المعادى أصلاً للشيوعية أو من غيره ولأن الاتهام أصلاً على خلاف الحقيقة حيث كان الشيوعيون فى السجون فعلاً! لكن الصمت قد يعطى عند البسطاء المبرر للحرب على عبدالناصر ونظامه ومحاولة إسقاطه واغتياله فهؤلاء البسطاء يفهمون أن قتل الكافر حلال وحق ولن يستوعب الكثير منهم أن هذه اتهامات الإخوان وأنها على لسانهم هم وليست الحقيقة!
كما أن فكرة الحاكمية فكرة باطلة ومتهافتة كان ينبغى الرد عليها إما من خلال وكلاء النيابة فى التحقيق أو من خلال مشاهد أخرى لآخرين.. ليعرف الناس بطلانها وتصادمها مع الإسلام نفسه.. ليس فقط لأن الفكرة نشأت عند أبوالأعلى المودودى فى الهند قبل الاستقلال وتأسيس باكستان وبالتالى فى مجتمع فيه المسلمون أقلية يحكمهم غير المسلمين.. وإما لعدم إدراك الفكرة لفلسفة «المخلوق» المكلف بالاستخلاف فى الأرض التى تتطلب تنظيمه لحياته والتنظيم لا يتم إلا بقواعد عامة مجردة لكل من يعيشون معاً على أرض واحدة.. وهذه القواعد العامة المجردة هى القوانين وهذه القوانين لا تصدر إلا بالتشريعات.. والتشريعات هنا بشرية وضعية وإلا ما كنا نظمنا مجتمعنا بقوانين المرور والملاحة البحرية والتأمين والبنوك والسلم الوظيفى وقوانين البناء وقوانين المال العام والتهرب الضريبى وقوانين التقاضى ودرجاته بل وقوانين النشر وجرائمه التى بها ومن خلالها أصدر سيد قطب نفسه كتبه ومنها «معالم فى الطريق» بأربع طبعات كاملة وافق عبدالناصر بنفسه على ثلاث منها وأمر بجمع الكتاب فى الرابعة بعد إدراكه أن شيئاً مريباً يحدث!
كان يمكن أن يتضمن الحوار ذلك.. ليجمع المسلسل بين السم والترياق الشافى معاً.. وبغير أى دعاية مجانية غير مستحقة لأفكار واهية وفى أجواء ملتهبة كحالنا الآن.. وتبقى الفرصة قائمة فى الجزء المقبل!