تغيب عن الإنسان أمورٌ ذات معنى كبير بالنسبة له على الرغم من ضآلتها فى عيون من حوله، فإذا بالأُنس يهجر عالمه، والوحشة تشقّ طريقها إلى فؤاده، فكيف إن غابَ عنه وطنه؟ يقولون إن مَن لا يسكن فى وطنه يسكنه وطنه، إلّا أنّ هنالك مَن يقبعُ فى المنفى ويحمل وطنه وغربته فوق كتفيه ورأسه مزدحمٌ بذكرياته وعيناه تغرورقان عند مرور طيفه، فكلّ أفراح العالم لا تداوى أتراحه.
فى رحلتى إلى كندا مؤخراً اصطحبت بعض الكتبِ التى بدأت تفوح منها رائحة العتاب الصامت الرقيق لأنى هجرتها، حتى إنّ صَفَحاتها لم تلتمس لى عذراً على انشغالاتى وتعدد أسفارى، فساقتنى إليها عُنوة ونهَلت منّى ونَهلتُ منها بنَهَم وزخم.
كانت مذكرات «بهاء طاهر.. السيرة فى المنفى» تتوارى بين تلك الكتب، فاخترتها رفيقاً يصاحبنى لأكثر من سبع ساعات أثناء سفرى من لندن إلى مونتريال. بين طيَّات المذكرات سيرة ذاتية فريدة من نوعها، تحمل فى جنباتها خبايا لا يعرفها الكثيرون عن الأديب والكاتب والروائى والمترجم «بهاء طاهر»، فـ«الناس لا تبوح بأسرارها للأصدقاء وإنما للغرباء فى القطارات أو المقاهى العابرة»، كما يقول الأديب طاهر، وأوّل البوح أشده إيلاماً، فأىّ سيرة تلك التى لا تَنْصبُ فى بدايتها تذكاراً للأب والأمّ بحكايات مفعمة بعبق من مشاهدِ الماضى تتسرّب إلى رئتيك فتتنفّس حنيناً وتشهق شوقاً. ثم ينقلنا إلى بيت الزوجية الذى ملأته «ستيفكا» الروسية بذكريات دافئة عبر السنين التى حوت أسراراً أخرى شقّت طريقها إلى حياته بشهدها وعلقمها، عن الغربة أتحدّث، عن ذلك الغياب الذى سمّاه أديبنا المبدع «منفى».
خلف ذلك المنفى غصَّة فى حلقه ومرارة لا تبارحُ قلبه وقلمه، وذكريات بَنَت فى داخله مُستعمرة، وسياحة فى سجلات الماضى، وغوصٌ فى تفاصيل لم يكن ثمة مفر منها على حد وصفه، ليصبح المنفى تجربة حتميّة قاسية تفرض عليك البعادَ وليس سوى البِعاد. ثمّ ينتقل إلى تفاصيله التى شكّل والده جزءاً منها؛ الأب الذى يُربّى ولا يصادق بحسب تعبيره، أما عن الأمّ فكلّ المعانى حبيسة ردهة مُحكمة الإغلاق عصيّة على الخروج، إلا أنه عبّر عنها بكلماته: «لما ماتت أمى، غام الأمل، وشاهت الحياة.. كنت صبياً لكنى شِخت، كنت نبياً وهى وحيى»، وبهذا تقع فى شباك أحزانه وتَعلَق بين عناقيد همومه وأنت لا تدرى.
لا تملك وأنت فى حضرة رائعة سيرة بهاء طاهر إلا أن تقف وتتأمل عباراتٍ خطّها الأديب متعجّباً من ذلك الثّقل الذى تعكسه تلك الكلمات فى ذاته وشدّة وطأة المنفى على وجدانه وحياته، حتى أتى اليوم الذى انصاع فيه لرغبته وعادَ إلى وطنه، فإذا الحياة التى عرفها رحلت، والأحلام التى طالما راودته تبخرت، فقصر الثقافة فى قريته بالصعيد أضحى (خرابة)، على حد قوله، بعد أن تفشّت الآفات المجتمعية فى كلّ مكانٍ وعمّت الأرجاء، فما كان منه إلا أن يقف على الأطلال يبثّ حسرته وحيرته بين دفّتَى سيرته الذاتية آسفاً ومتألماً لعدم استفادة الدولة من كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» عام 1937م، وهو الذى يرى أن ما حلَّ بنا مجتمعياً ما كان ليكون لو أن للثقافة ركن ركين فى الوجدان المصرى وليس قصوراً ثقافية تصدعت من الكسور والقشور والخلو من المضمون.
من يقرأ سيرة الأديب بهاء طاهر يدرك يقيناً أنه لم يكتب عن المنفى الذى كان، ولكنه نقلنا إلى المنفى الذى عانقه وما زال.