ماذا لو أعددنا قائمة بالآفات والأوبئة التى تفتك فى عضد المجتمع ومؤسساته على حدٍّ سواء، ثم قمنا بحصر التكاليف على شكل موازنة مالية لمعرفة الأضرار التى تحيلنا إلى ركام من الكراهية المجتمعية والمؤسسية، حتماً سنتوصل إلى الاستنتاج ذاته الذى أعلنت عنه إحدى الدراسات الأمريكية، التى أثبتت أن ١٠% من الناتج القومى يتم إنفاقه على الأمراض الجسدية والنفسية نتيجة كراهية الموظف لبيئة العمل والمشاحنات التى تحدث فى أروقة المؤسسات، ناهيك عن تأثير ذلك على أدائه وإنتاجيّته. هذا ما تُظهره فاتورة أسقامنا للعَلن، وما خفى أدهى وأمرّ.
تكفيك جولة عابرة فى أروقة الوزارات والهيئات والمصالح والجامعات وغيرها من مؤسسات الدولة، لتتكدّر أفكارك وتتلوّث أنفاسك بالرائحة المُربكة التى تفوح من بعض الشخصيات السُميّة أينما حللت، فيسقطون على أثرها، ويسقط بالمعيّة آخرون فى دوّامة المصحات النفسية والبشرية بأمراض مزمنة وأخرى مستعصية.
يتصدّر هذه القائمة «تضخّم الذات»، فالأنا عند المسئول تعلو على كل اعتبار، فلا علم إلا علمه ولا رأى إلا رأيه، وهو أهل التشريف دون التكليف، وهو العلّامة وصاحب المكانة والهامة، وإن غابت الكفاءة، وكل من يعملُ تحت عرشه الوظيفى رعية وتابعون، ويعلو عنده صوت الأقدمية والمحسوبية والمجاملات. يمتلك مهاراتٍ فائقة فى انتقاء التعليقات اللاذعة لإحراج من يُحاول عبثاً أن يرتقى فى الفهم والأداء، وكل الطاقات الإبداعية رهينة قوالب ثلجية حتى إشعارٍ آخر، فلا دعم ولا تفويض ولا تمكين، وساحة العمل تحت إدارته ليست سوى أرض تشقّقت بالتصحّر المعرفى والجفاف التواصلى والتشاركى، لا يرويها إلا بالماء الآسن الملوّث بضيق الأفق والفوقية ووهم الأقدمية.
القائمة الثانية عنوانها «الغيرة الوظيفية»، إن بزغ نجم أحدهم المهنى، وعلت بصمته المنصات، وأُغدقت عليه الترقيات والتقديرات، حتى تبدأ سهام الغيرة الانتقاميّة تطلق عليه من كل حدب وصوب، قد يعبر بعضها بيئة العمل لتصيب الضحيّة وتخترق حياته الشخصيّة؛ فيدفع صاحب النجاحات ثمن تفوّقه والتزامه بالقيم المؤسسية، ليكون مصيره التشكيك فى مهنيته، والتقليل من كفاءته والتنكيل به ظلماً وبهتاناً؛ وهذا ما أثبتته إحدى الدراسات الفنلندية بأن ٦١% من موظفى المؤسسة التى تنتشر فيها الشائعات والنميمة يصابون بالاكتئاب النفسى.
القائمة الثالثة مرتبطة بـ«العداوة والخصومة» مع كل ما هو «عملى» و«بحثى» من دراساتٍ أو أبحاث تكلف الدولة الملايين، سواءً داخل مصر أو خارجها، لتسير إلى مثواها الأخير وتوارى الغبار الذى يعلو أدراج الأرشيفات الحكومية تنكيلاً بأصحابها..! وتزداد الفجوة اتساعاً بين نظرية مصر «المعرفية البحثية العلمية» وواقعية مصر «القشورية الفهلوية العشوائية»، ولا يُبارح ترتيبنا عالمياً فى التعليم العالى (135 من 139 دولة) بهدميّة المتنفعين والمتسلّقين على أكتاف المبدعين من أصحاب الطاقات الخلاقة الذين تشهد البلدان المتقدمة بنبوغهم الذى لا يرى النور فى بلدهم.
القائمة طويلة تنضح بالأوبئة الوظيفية فتكاً ويصعب تلافيها، ولن تتعدى اللائحة التنفيذية المرتقبة لقانون الخدمة المدنية عن كونها نصوصاً ورقية، رغم بنودها الوقائية والعلاجية؛ فالداء عضال وحاملو الفيروس ينعمون فى بيئة حاضنة لأوبئتهم، والدولة مبلغ علمها أن الموازنة يجب أن توجّه إلى المرتبات والعلاوات والمأكل والتعليم والعلاج، فأغفلت آفات مؤسسية تكلفنا المليارات تحت بند «التكلفة الخفية» دون وجود خطة لمواجهتها وتحليلها وتصنيفها وتحديد درجة خطورتها وكيفية التعامل معها، لتظل مصدر تهديد لازدهار الوطن وتقدّمه.
لو قرّرنا رصد وحساب التكلفة السنوية لهذه الآفات، يقينى أننا سنكون أمام أرقام مذهلة قد تفوق موازنة الدولة؛ اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد..!